مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* حضارات منسية - الفرس والروم في عصرنا - الثقافة في العصر الحجري .

اذهب الى الأسفل

* حضارات منسية - الفرس والروم في عصرنا - الثقافة في العصر الحجري . Empty * حضارات منسية - الفرس والروم في عصرنا - الثقافة في العصر الحجري .

مُساهمة  طارق فتحي الأحد أبريل 14, 2019 9:03 pm

حضارات منسية عبر التاريخ
مجموعة من الحضارات ظهرت على مر التاريخ إلا أنها لم تكن مشهورة بالقدر الكافي حيث غلفها الكثير من الغموض ولم يتم التعرف عليها بالقدر الكافي في العصر الحديث على الرغم من أهميتها الشديدة وذلك لقلة مكتشفاتها أو لغموضها منها حضارة بيل بيكر، بلاد بونت، الحضارة الإتروسكانية، حضارة النوق، مملكة سانكسينجدوي، مملكة السند وفيما يلي سوف نتناول بعض من هذه الحضارات بالشرح والتفصيل.

حضارة سانكسينجدوي :
إحدى الحضارات الغامضة التي خلفت ورائها العديد من الأسئلة، مثل من هم أهل هذه الحضارة الذين تخفوا جميعهم خلف أقنعة من البرونز والذهب، ظهرت حضارة سانكسينجدوي في العصر البرونزي فيما يعرف الآن بـ ” مقاطعة سيتشوان الصينية “، ويعتقد أنها انتهت فقط منذ حوالي 3000 عام مضت، لم تخلف تلك الحضارة سوى بعض الحفريات والمنحوتات البرونزية والتي تبلغ طولها 8 أقدام والتي تم اكتشافها في عام 1986م، وبعض نقوش اليشم المعقد تم وضعها في متحف سانكسينجدوي في الصين.

حضارة النوق :
لعبت الصدفة دور كبير في اكتشاف حضارة النوق التي ظهرت في الفترة [1000 ق.م – 300م]، ففي عام 1943م في أحد المناجم الخاصة باستخراج القصدير في شمال نيجيريا حيث اكتشف أحد عمال المناجم رأس “تيرا كوتا” والذي يعود إلى تلك الحضارة، وبعدها توالت الاكتشافات الأثرية لمجموعة من المنحوتات والتماثيل لمجموعة من الأشخاص يرتدون الحلي والمجوهرات ويحملون الهراوات، وكذلك منحوتات لأشخاص يعانون من مرض داء الفيل والتي يعرض أغلها في المتحف الوطني بنيجيريا.

حضارة بيل بيكر :
سكنت تلك الحضارة جميع أنحاء أوربا في الفترة من [2800 – 1800 ق.م] ، وقد أطلق عليها ذلك الاسم مجموعة من علماء الآثار، تركت تلك الحضارة بعض الأبنية في “ستونهنج” وكذلك بعض القبور التي يصل عددها 154 مقبرة تقع في جمهورية التشيك، وكذلك القطع النحاسية ومجموعة من الأواني الفخارية على شكل أجراس مقلوبة وهو ما يعرف بالكأس، إلا أنها تظل حضارة منسية لا توجد حولها الكثير من المعلومات الكافية.

حضارة شلا :
سكنت حضارة “شلا” شبه الجزيرة الكورية في الفترة من [935 – 57 ق.م] وعلى الرغم من طول الفترة الزمنية التي حكمت فيها تلك المملكة إلا أنها لم تخلف سوى القليل من الآثار مما أثار حولها الكثير من الغموض، فقد وجد خنجر مصنوع من الذهب والعقيق، ويشم ومجموعة من المجوهرات ولباد من الحديد والزهر.

وقد ظهرت أسطورة شلا التي تؤمن بأن الملك باك هيوكجيوس Bak Hyeokgeose، خرج من بيضة غامضة داخل الغابة وتزوج من الملكة التي ولدت من أضلاع التنين ليقوما بتأسيس مملكة شيلا التي انقسمت داخلها المجتمع إلى طبقتين طبقة الفقراء والأغنياء وقد ظهر ذلك من خلال الحفريات التي تم العثور عليها، وفي عام 2013 تم اكتشاف هيكل عظمي سليم لامرأة تتميز جمجمتها بالشكل المستطيل، تم عرضها مع بقية آثار تلك الحضارة في متحف جيونغ جو الوطني في كوريا الجنوبية.


من هم الروم والفرس في هذا العصر ؟
تمر علينا كثيرا كلمتي الروم والفرس في أحداث التاريخ ، أو في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فما هي أصول الفرس والروم ؟ ومن هم في عصرنا هذا ؟ ومن هم الأقوام الذين يطلق عليهم هذه الأسماء ؟

أولا الروم
بعض الكتب التاريخية ترجع كلمة الروم إلى “بنو الأصفر” ، وهي سلالة بشرية من نسل العيص بن اسحاق بن ابراهيم عليهما السلام ، ولكنه هذا التفسير يشمل الناحية العرقية ، و في الحقيقة كلمة “الروم” تشمل مجموعة من الناس يشتركون في بعض الصفات والسمات المحددة ، ويتوارثون ثقافة عن آبائهم وأجدادهم تختلف عن ثقافة الفرس والعرب ، ويعرف الروم ببياض بشرتهم ، واعتناقهم الديانة المسيحية بطوائفها المختلفة مثل الكاثوليك ، الأرثذوكس والبروتستانت .

اشتهرت كلمة الروم وأطلقت على “الإمبراطورية الرومانية الشرقية” ، أو “البيزنطية ” وعاصمتها “القسطنطينية ” ، والتي بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها على أيدي المسلمين ، والتي تولى حكمها هرقل في عصر النبوة ، وهذه الإمبراطورية كانت تحكم مصر والشام قبل أن يفتحها المسلمون ، كما مثلت الروم إمبراطورية “برومية” في غرب أوروبا وهي “إيطاليا حاليا”
تشكلت هاتين الإمبراطوريتين من عرقيات مختلفة تضم الأرمن ، السلاف ، الجرمن وغيرهم ، ولكنهم اشتركوا في اعتناقهم للمسيحية ، وكانت الإمبراطورية الرومانية تعادي الإسلام وتحاربه حتى انتصرت الدعوة وتم تأسيس أول دولة إسلامية لها في المدينة ، وبدأ الإسلام في الإنتشار ، وفتحت مصر والشام وبلاد فارس في عهد عمر بن الخطاب ، واستطاع بعدها السلطان العثماني محمد الفاتح تحرير القسطنطينية من الرومان وفتحها .

ذكرت كلمة الروم في القرآن الكريم ، وتوجد سورة كملة في القرآن باسمها ، فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم ،حينما نزلت علية آيات تنبؤه بانتصار الروم على الفرس ، فقد كانت الروم من أهل الكتاب ، وكان الفرس مشركون وقتها ، فأحب المسلمون رؤية الروم منتصرون ، بينما كان انتصار الفرس يسعد المشركين في مكة لأنهم يشتركون في نفس الضلال ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستكون هناك أحداث الساعة ، يقاتل فيها المسلمون الروم ، وتكون العاقبة والغلبة للمسلمين في النهاية .

ثانيا الفرس
إن لفظ الفرس يطلق على سكان بلاد الفرس ألا وهي ” إيران” حاليا ، والفرس هم سلالة عرقية ، يرجع أصلها إلى المجموعة الأريانية ، والفارسية هي اللغة التي يتحدثون بها ، وتشكلت هوية خاصة للفرس لأنها استوعبت عدد كبير من العرقيات ومنها الترك ، العرب ،اليونان وغيرهم .

تولت بلاد الفرس عدة امبراطوريات والتي كان أولها الدولة الميدية ثم الإخمينية ، حيث قامت بقيادة جيس “كوروش” ، فهاجمت واستولت على بابل ، وتوجهت نحو الشام وسيطرت عليها ، وبعدها إلى مصر ، وامتدت الدولة الإخمينية حتى الشمال في بلاد القوقاز ومضيق البسفور ، حتى جاء الإمبراطور الروماني “الإسكنر المقدوني” ، واجتاح أراضي الدولة وهزم الإمبراطور الفارسي .

تم ارسال جيش بقيادة الصحابي “سعد بن أبي وقاس” ، في عهد سيدنا “عمر بن الخطاب” ، ونشأت معركة بين الفرس والمسلمين عام 636 م ، وكانت نتيجتها هزيمة الفرح وتحطيم المسلمين إيوان كسرى بعد دخوله ، وجاء هذا تصديقا لتبؤ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأطلق على هذه المعركة “القادسية ” ، ومنذ ذلك الوقت والفرس تدين الإسلام ، ومذهب السنة والجماعة ، ولكن جاءت الدولة الصفوية عام 1501 م ، والتي عملت على تشييع أهل إيران ، وترك مذهب السنة والجماعة ، وخضع معظمهم مذهب الشيعة الإثنى عشرية ، تخوفا من الحكام الصفويين .


الثقافة في العصر الحجري
وعند الحديث عن الثقافة في العصر الحجري فإننا نتناوله من النقاط التالية: فضلات المطبخ - سكان البحيرة - ظهور الزراعة - إستئناس الحيوان - الأساليب الفنية - النسيج في العصر الحجري الحديث - صناعة الخزف - البناء - النقل - الدين - العلم - موجز لما تم فيما قبل التاريخ من تمهيد للمدنية
حدث في فترات مختلفة من القرن الأخير أن وُجِدت أكداس هائلة مما يرجح أنها من فضلات ما قبل التاريخ ، وجدت في فرنسا وسردينيا والبرتغال والبرازيل واليابان ومنشوريا ، ثم وُجدت فوق ذلك كله في الدانمرك حيث أطلق عليها هذا الإسم العجيب "فضلات المطبخ" التي أصبحت تعرف به أمثال هذه الأكداس من آثار القديم ؛ وتتألف أكداس الفضلات هذه من قواقع ، خصوصاً قواقع المحار و بلح البحر و حلزون البحر ، ومن عظام كثير من الحيوانات البرية والبحرية ، ومن آلات وأسلحة صنعت من العظم والقرن والحجر غير المصقول ، ومن بقايا أرضية مثل الفحم والرماد والخزف المكسور ؛ وهذه الآثار التي لا تأخذ العين بجمالها- دلائل واضحةُّ على ثقافة تكونت في تاريخ يقع حول سنة ثمانية آلاف ق.م ؛ وهو تاريخ أَحدث من العصر الحجري القديم بالمعنى الدقيق ، لكنه كذلك لا يبلغ من الحداثة أن يكون من العصر الحجري الحديث ، لأنه لم يكن قد وصل بعد إلى عصر استخدام الحجر المصقول ؛ ولا نكاد نعلم شيئا عَمَّن خَلفَّوُا لنا هذه الآثار ، سوى أن ذوقهم كان أصيلا إلى حدٍ ما ؛ ويمكن إعتبار فضلات المطبخ - بالإضافة إلى ثقافة مادزيل Mas dazil في فرنسا ، وهي أقدم من الفضلات قليلا ممثلة لعصر حجري وسيط ، هو بمثابة مرحلة إنتقال بين العصرين الحجريين القديم والحديث.
وفي عام 1854 حيث كان الشتاء من الجفاف بدرجة خارقة للمألوف ، هبط مستوى الماء في البحيرات السويسرية ، فكشف عن عصر آخر من عصور ما قبل التاريخ ؛ فوجدت أكوام فيما يقرب من مائتي موضع في هذه البحيرات ؛ ووجد أن هذه الأكوام ظلت مكانها تحت الماء زمنا يتراوح بين ثلاثين قرنا وسبعين ؛ ولقد كانت تلك الأكوام مصفوفة على نحو يبيّن أن قد شيدت فوقها قُرَّى صغيرة ، وربما شيدت هناك رغبة في العزلة أو في الدفاع ؛ وأن كل قرية كانت تتصل باليابس بجسر ضيق لم تزل أساس بعضها في أماكنها ؛ وكانت قوائم المنازل نفسها ما تزال باقية هنا وهناك ، لم تُزِلِها الأمواج بفعلها الدءوب وبين هذه الخرائب الباقية وجدت آلات من العظم والحجر المصقول الذي أصبح في رأي علماء الآثار علامة مميزة للعصر الحجري الجديد الذي إزدهر حول سنة 000ر10 ق.م في آسيا، وحول سنة 5000 ق.م في أوربا: وشبيه بهذه الآثار ما تركه الجنس البشري العجيب الذي نسميه بإسم بُنَاة الجبال من بقايا هائلة ضخمة في وديان المسسبي وفروعه ؛ ولسنا ندري عن ذلك الجنس من أجناس البشر إلا أنه في هذه الجبال التي بنوها وتركوها على هيئة مذابح القربان أو على أشكال هندسية مختلفة أو على هيئة حيوانات الطوطم ، وجدت أشياء صنعوها من حجر وقوقع وعظم ومعدن مطروق، مما يضع هؤلاء الناس الملغزين في خاتمة العصر الحجري الجديد.
فلو حاولنا أن نلفّق صورة من هذه الأشتات الأثرية عن العصر الحجري الجديد ، لرأينا في الصورة على الفور خطوة جديدة خطاها الإنسان ، تثير فيك الدهشة عند رؤيتها ، ألا وهي الزراعة ؛ إنك تستطيع أن تقول إن التاريخ الإنساني كله - بمعنى من معانيه - يدور حول إنقلابين: الإنقلاب الذي حدث في العصر الحجري الحديث فنقل الإنسان من الصيد إلى الزراعة ، والإنقلاب الذي حدث أخيراً فنقله من الزراعة إلى الصناعة ؛ ولن تجد فيما شهد الإنسان من ضروب الإنقلاب ما هو حقيقي أساسيّ كهذين الإنقلابين ؛ فالآثار تدلنا على أن سكان البحيرة كانوا يأكلون القمح و الذرة و الجويدار والشعير و الشوفان ، فضلا عن مائة وعشرين نوعاً من أنواع الفاكهة ، وأنواع كثيرة من البندق ؛ ولم نجد في هذه الآثار محراثاً ، ويجوز أن تكون علة ذلك هي أن سنان المحاريث كانت تصنع من خشب ، فيُدَقَّ جذع شجرة إلى فرع بمسمار من حجر الصَّوان ؛ لكن نقشا محفورا على الصخر من العصر الحجري الحديث يدل دلالة لا يأتيها الشك على أنها صورة فلاح يسوق محراثاً يَشُدُّه ثوران وهذا يحدد لنا إختراعا جاء بمثابة بداية لعصر جديد من عصور التاريخ ؛ إن الأرض قبل أن تدخلها الزراعة كان في مستطاعها أن تهيئ أسباب العيش لما يقرب من عشرين مليوناً من الأنفس البشرية في تقدير سير آرثر كيث غير الدقيق ، وحياة هؤلاء الملايين العشرين كانت معرضة لموت سريع بسبب الصيد والحرب ، أما بعد الزراعة فقد بدأ تكاثر الناس تكاثراً أيَّدَ سيادة الإنسان على الأرض سيادة مكينة لا شك فيها. وفي الوقت نفسه كان أهل العصر الحجري الحديث يقيمون أساسا آخر من أسس الحضارة ، وهو إستئناس الحيوان وتربيته؛ ولا شك أن قد استغرق هذا العمل حينا طويلا من الدهر، قد تكون بدايته أسبق تاريخاً من العصر الحجري الحديث ؛ فحب الإنسان بغريزته للإجتماع بغيره ربما كان عاملا مساعدا على إتصال الإنسان والحيوان ، كما لا نزال نرى علائم ذلك واضحة في فرحة البدائيين بتدريب الوحوش المفترسة ، وفي ملء أكواخهم بالقردة والببغاوات وأمثالها من سائر الزملاء وأقدم العظام في آثار العصر الحجري الحديث (حوالي 000ر8 ق.م) هي عظام الكلب - الذي هو أقدم زملاء الجنس البشري عهداً وأشرفها خلقاً ؛ ثم جاءت بعد ذلك (حوالي 6000 ق.م) الماعز والخروف والخنزير والثور وأخيرا جاء الحصان الذي لم يكن عند أهل العصر الحجري القديم إلا حيوانا يصاد ، إذا حكمنا من الرسوم التي في الكهوف ؛ أما في هذا العصر الحجري الحديث فقد أخذه الناس إلى حيث يسكنون واستأنسوه وجعلوا منه عبداً محبباً إلى نفوسهم إذ إستخدموه على شتى العصور ليزيد من ثروة الإنسان وفراغه وقوت ه؛ وهكذا أخذ هذا الإنسان الذي بسط سيادته على الأرض آخر الأمر ، في الإكثار من موارد طعامه بتربية الحيوان إلى جانب صيده له ؛ وربما عرف الإنسان كذلك- في هذا العصر الحجري الحديث- كيف يستخدم لبن البقرة طعاماً. وأخذ المخترعون في العصر الحجري الجديد شيئاً فشيئاً يوسّعون ويحسنون آلاتهم وأسلحتهم، فها هنا ترى بين مخَلفّاتهم بَكَرات ورافعات ومُرهِفّات ومغارز وملاقط وفؤوساً ومعازيق وسلالم وأزاميل ومغازل ومناسج ومناجل ومناشير وأشصاص السمك وقباقيب للإنزلاق على الثلج وإبرا ومشابك صَدر ودبابيس. ثم هاهنا فوق هذا كله ترى العجلة، وهي مخترع آخر من مخترعات الإنسان الأساسية، وضرورة متواضعة من ضرورات الصناعة والمدنيَّة ؛ فهي في هذه المرحلة من العصر الحجري كانت قد تطورت إلى قرص وإلى أنواع أخرى من العجلات ذوات الأقطار ؛ وكذلك استعملوا كل صنوف الحجر في هذه المرحلة- حتى العِصِيّ منها كالحجر الزجاجي الأسود- فطحنوه وثقبوه وصقلوه ، وإحتُفِرت الصَّوانات على نطاق واسع ؛ فوجدت في أحد محافر العصر الحجري الحديث ، في مدينة براندُن بإنجلترا ، ثمان حافرات من قرن الغزال ، ورؤيت على أسطحها المعفّرة بصمات العمّال الذين وضعوها هناك منذ عشرة آلاف من السنين ؛ وفي بلجيكا كشف عن هيكل عظمي لعامل من عمال المناجم في العصر الحجري الحديث ، سقط عليه حجر فأرداه ، كُشف عنه ولا تزال الحافرة في قبضة يده ، فعلى الرغم من مائة قرن تفصلنا عنه ، نحسّ كأنه واحد منا ونشاطره بخيالنا الضعيف فَزَعَه وآلامه ؛ فكم من آلاف السنين قضاها الإنسان وهو يمزق أحشاء الأرض يستخرج الأسس المعدنية التي قامت عليها المدنية!
فلما أن صنع الإنسان الإبر والدبابيس ، بدأ ينسج ، أو إن شئت فقل إنه لما بدأ ينسج حَرَّكَتْه الضرورة إلى صناعة الإبر والدبابيس ؛ ذلك أن الإنسان لم يعد يرضيه أن يدثّر نفسه بفراء الحيوان وجلوده ، فنسج صوف خرافه وألياف النبات أردية كانت هي أساس الثوب الذي يلبسه الهندوسيّ ، والشَملة التي كان يلبسها اليوناني ، والثوب الذي يغطي أسفل الجسم الذي كان يرتديه المصري ، وسائر الصنوف الخلابة التي تراها في الثياب عند الإنسان ، ثم إصطنع الناس صبغة إستخرجوها صنوفا من أخلاط عصير النبات أو مستخرجا الأرض ، وصبغوا بها الثياب لتكون علامة ترف ينفرد بها الملوك ؛ والظاهر أن الإنسان أو ما نسج جعل يضفر الخيوط على نحو ما يضفر القشَّ بأنه يجدل خيطا مع خيط ؛ ثم انتقل بعد ذلك إلى ثَقب جلود الحيوان وربطها من هذه الثقوب بألياف غليظة تتخللها ، كالمِشدَّات التي كان يستعملها النساء حديثاً ، وكالأحذية التي نلبسها اليوم ؛ ثم أخذت الألياف تتهذب تدريجياً حتى أصبحت خيط ، وعندئذ أصبحت الحياكة من أهم الفنون عند المرأة ؛ فالمغازل التي بين آثار العصر الحجري الحديث تكشف عن أصل من الأصول العظمى للصناعة الإنسانية بل أنك لتجد في هذه الآثار حتى المرايا، وإذن فقد أصبح كل شيء مُعَدًّا للمدنيَّة.
ولم نجد آثاراً خزفية في قبور الجزء الأول من العصر الحجري العظيم ، وإنما ظهرت منه قِطَع قليلة في آثار الثقافة المجدلية في بلجيكا؛ لكنه في العصر الحجري الحديث الذي خَلَّفَ لنا فضلات المطبخ هو الذي نجد في آثاره خزفاً على شيء من التقدم في الصناعة ؛ ونحن بالطبع لا نعلم كيف نشأت هذه الصناعة ؛ فيجوز أن قد لاحظ الإنسان البدائي أن الفجوة التي تصنعها قدمه في الطين ، كانت تحتفظ في جوفها بالماء دون أن يتسرب ؛ ويجوز أن قد شاءت المصادفة أن تلقى قطعة من الطين إلى جانب نار موقدة فتجف ، فتوحي بجفافها هذا إلى الإنسان الأول بالفكرة التي أفرزت في النهاية هذا المخترع ، وكشفت له عما يمكنه إستغلاله من هذه المادة التي توجد بكثرة ، والتي تطاوع يده في تشكيلها ، والتي يسهل تجفيفها في النار أو في الشمس ؛ ولا شك في أن الإنسان قد لبث آلاف السنين يحفظ طعامه وشرابه في آنية طبيعية كهذه ، إلى جانب كؤوس القَرع وجوز الهند وقواقع البحر ؛ ثم صنع لنفسه أقداحاً ومغارف من الخشب أو الحجر ؛ كما صنع السلال والمقاطف من الحلفاء والقش ، وهاهو ذا قد صنع لنفسه كذلك آنية أدوم بقاء من الطين المجفف وبه إبتدع مخترعاً جديداً يُعَدُّ من أعظم الصناعات التي عرفها الإنسان ، لكن إنسان العصر الحجري الجديد لم يعرف عجلة الخزَّاف، فيما تدل الآثار الباقية لنا ؛ إنما صنع بيديه هذا الطين أشكالا ذات جمال ونفع في آن معاً ؛ وزخرفة الآنية برسوم ساذجة. وهكذا جعل صناعة الخزف منذ بدايتها تقريباً لا تقف عند حد كونها صناعة فحسب، بل جعل منها فنًّا كذلك.
وهاهنا كذلك نجد العلامات الأولى لصناعة أخرى من كبُرى الصناعات الأولى: صناعة البناء؛ فإنسان العصر الحجري القديم لم يخلّف لنا أثراً كائناً ما كان لمسكن غير الكهوف ؛ حتى إذا ما بلغنا العصر الحجري الحديث ، ألقينا بعض وسائل البناء مثل السلمّ الخشبّي والبكرة والرافعة والمقصلة ؛ فقد كان سكان البحيرة نجارين مهرة يربطون أعمدة الخشب إلى أساس البناء بخوابير ثابتة من الخشب ؛ أو يصلونها وهي موضوعة رأساً لرأس ، أو يزيدونها قوة بدقّ عوارض تتطلب معها على الجوانب ؛ وكانت أرضيَّة الغرفة عندهم من الطين ، وجدرانها من الغصون المجدولة مغطاة بطبقة من الطين ، والسقف من اللحاء والقش والحلفاء والغاب ؛ ثم بمعونة البكرة والعجلة إستطاع الإنسان أن ينقل مواد البناء من مكان إلى مكان ، وبدأ في وضع أسس ضخمة من الحجر لقُراه ؛ وكذلك أصبح النقل صناعة من الصناعات ، فصُنِعت الزوارق التي لا بد أن تكون قد ملأت البحيرات حركة ؛ ونُقِلت التجارة عبر الجبال وإلى القارات البعيدة ، وأخذت أوربا تستورد من البلاد النائية أحجاراً نادرة كالعنير والبَشم والحجر الزجاجي الأسود وأنك لتجد في أصقاع مختلفة من الأرض تشابها في كلمات أو حروف أو أساطير أو خزف أو رسوم ، مما يدلك على ما كان بين جماعات البشر قبل التاريخ من إتصال ثقافي. ولو إستثنيت الخزف ، وجدت أن العصر الحجري الجديد لم يخلّف لنا فنا نستطيع مقارنته إلى ما كان عند إنسان العصر الحجري القديم من تصوير وصناعة تماثيل ؛ فهنا وهناك بين مشاهد الحياة في هذا العصر الحجري الحديث ، من إنجلترا إلى الصين ، ترى أكواما مستديرة من الحجر ، أو أعمدة قائمة أو آثاراً ضخمة من البناء لا نعرف الغاية من بنائها ، كالتي تراها في ستوُنهِنج أو موربهان ، والراجح أننا لن نعرف معنى هذه الآثار البنائية أو وظائفها ، وربما كانت بقايا مذابح للقرابين أو معابد. ذلك لأن إنسان العصر الحجري الجديد لابد أن قد كانت له ديانات وأساطير يصوّر بها ما يعتور الشمس كل يوم من مأساة ونصر ، وما تصيب التربة من موت وبعث ، كما يصور بها تأثير القمر تأثيراً عجيباً على الأرض ؛ إنه ليستحيل علينا أن نفهم عقائد الإنسان في عصور التاريخ بغير إفتراض أصول كهذه تمتد إلى ما قبل التاريخ ؛ ويجوز أن يكون ترتيب الأحجار في هذه الأبنية نتيجة لإعتبارات فلكية ، ويدل على معرفتهم بالتقويم- كما يظن "شنيدر" ؛ وكان للناس في ذلك العصر أيضاً بعض المعرفة العلمية ، لأن بعض الجماجم من العصر الحجري الجديد وجدت بها آثار تَربَنَ ة، وبعض الهياكل العظيمة فيها أعضاء يظهر أنها كُسِرَت ثم جُبِرَت. ليس في وسعنا أن نقدر ما أداه الإنسان فيما قبل التاريخ تقديراً تاماً ، لأننا من جهة لا ينبغي أن ننساق وراء الخيال في تصوير حياتهم بحيث نجاوز ما تبرره الشواهد ، ولكننا قد نشك من جهة أخرى أن الدهر قد محا آثاراً لو بقيت لضيَّقَت مسافة الحُلف بين الإنسان الأول والإنسان الحديث ؛ ومع ذلك فما قد بقى لنا من أدلة على خطوات التقدم التي خطاها إنسان العصور الحجرية ، يكفي وحده لتقديره: فحسبنا ما تم في العصر الحجري القديم من صناعة الآلات واكتشاف النار وتقدم الفنون ، وحسبنا ما ظهر في العصر الحجري الحديث من زراعة وتربية حيوان ونسج وخزف وبناء ونقل وطب. وسيادة الإنسان على الأرض سيادة لم يَعُد منازَعاً فيها ، والتوسع في عمرانها بأبناء الجنس البشري ؛ هكذا وُضعت للمدنية كل أساسها؛ كل شيء قد تم إعداده للمدنيات التاريخية إلا المعادن "فيما نظن" والكتاب والدولة؛ فهيأ للإنسان سبيلا لتسجيل أفكاره وأعماله ، بحيث يمكن نقلها كاملةً آمنة من جيل إلى جيل، تبدأ له المدنية.

العصر الحجري
آيته العظمى هي النار ، وفي ذلك أشار دارون إلى أن حمم البراكين الحار قد يكون هو الذي علمّ الإنسان ما النار؛ ويقول لناأسخيلوس إن برومثيوس صنع النار بإشعاله حَطَبةً في فوهة بركان مشتعل على جزيرة لمنوس ؛ وبين آثار إنسان النياندرتال قِطَعُّ من الفحم وقطع من العظم المحترق ، وإذن فالنار التي صنعها الإنسان تذهب في القِدَم إلى أربعين ألف عام مضت. وقد أعد إنسان "كرو- مانيون" لنفسه آنية خاصة تمسك الشحم الذي كان يشعله ليستضيء بضوئه، وإذن فالمصباح كذلك له من العمر هذا الزمن الطويل ؛
والراجح أن تكون النار هي التي مكنت الإنسان من إتقاء البرد الناشئ عن الجليد الزاحف ؛ وهي التي أتاحت له النوم في الليل آمنا من الحيوان الذي إرتعد لهذه الأعجوبة إرتعاداً يَعدِل عبادة الإنسان البدائي إياها ؛ وهي التي قهرت الظلام فكانت أول عامل من العوامل التي حَدَّت من الخوف ، والتقليل من خوف الإنسان أحد الخيوط الذهبية في نسيج التاريخ الذي ليست كل خيوطه ذهبا ، وهي التي أدت أخيرا إلى صهر المعادن وإلتحام بعضها في بعض ، وهي الخطوة الو

حيدة الحقيقية التي تقَدَمها الإنسان في فنون الصناعة من عهد إنسان "كرو- مانيون" إلى عصر الإنقلاب الصناعي.

وإننا لنروي لك عجبا- وكأنما نرويه لنوضح قصيدة "جوتييه" على الفن الجبار الذي يحيا بعد فناء الأباطرة وزوال الدول- إننا نروي لك عجباً إذ نقول إن أوضح آثار خلفها لنا إنسان العصر الحجري القديم هي قِطَع من فنه؛ فقد حدث منذ ستين عاما أن وقع "السنيور مارسلينو دي سوتولا" Marceleno de Soutuola على كهف واسع في مزرعته في "أَلتَاميرا" في شمال أسبانيا، وكان هذا الكهف قد لبث آلاف الأعوام مقفل الباب كأنه صومعة راهب، أقفلته صخور سقطت عليه وأمدتها الطبيعة بملاط من لدنها حين ربطت بعضها ببعض بأعمدة من رواسب؛ ثم جاء الإنسان فضرب في هذا الموضع بضرباته لينشئ لنفسه جديدا، فإذا به يكشف بضرباته عن مدخل الكهف بطريق المصادفة؛ ومرت بعدئذ ثلاثة أعوام ثم جاء "سوتولا" ليستطلع الكهف فلحظ على جدرانه علامات غريبة ؛ وذات يوم صحبته إبنته الصغيرة ، ولما لم تكن بذات طول يُلزمها الإنحناء كما كانت الحال مع أبيها ، فقد صعَّدت بصرها نحو السقف تشهد ما فيه ، فرأت تخطيطا غامضاً لبَيزُونٍ ضخم "البيزون هو ثور بريُّ".

جميع الرسم ناصع الألوان ؛ فلما فُحص السقف وفُحصت الجدران فحصاُ دقيقاً وجدت صور أخرى كثيرة ، وفي عام 1880 نشر "سوتولا" تقريراً عن مشاهدته ، فقابله علماء الآثار بريبة هي من خصائصهم دائماً ؛ وتفضل عليه بعض هؤلاء العلماء بزيارة يفحص فيها تلك الرسوم ، وينتهي بها إلى الإعلان بأن الرسوم زائفة خطتَّها يد خادعة؛ ودام هذا الشك- الذي ليس لأحد أن يعترض عليه مدى ثلاثين عاماً؛ ثم أكتُشِفت رسوم أخرى في كهوف يُجمع الرأي على أنها من عهد ما قبل التاريخ "مما فيها من آلات صَوَّانية غير مصقولة وعظم وعاج مصقولين" فأيدت ما كان وصل إليه "سوتولا" من رأي لكن "سوتولا" عندئذ لم يكن على قيد الحياة؛ وجاء الجيولوجيون إلى ألتاميرا وأقروا بإجماع أدرك الحقيقة بعد أوانها ، أقروا بإجماع أن الرواسب التي كانت تغطي بعض الرسوم إنما ترجع إلى العصر الحجري الأول وأن الرأي السائد الآن هو أن رسوم ألتاميرا- والجزء الأكبر من بواقي الفن التي بقيت لنا من عهد ما قبل التاريخ- ترجع إلى العهد المجدلي؛ أي إلى عهد يقع نحو سنة 000ر16 ق.م؛ وكذلك وجدت رسوماً أحدث تاريخا من هذه بقليل ، لكنها ما زالت من بقايا العصر الحجري القديم ، في كهوف كثيرة في فرنسا.
وتمثل الرسوم في معظم الحالات صنوفا من الحيوان- أوعالا وماموث وجياداُ وخنازير ودببة وغيرها؛ وربما كانت هذه الصنوف عن إنسان ذلك العصر طعاما شهيا ، ولذلك كانت موضع عنايته في صيده؛ وأحيانا نرى صورة حيوان مطعونا بالسهام ، ومن رأى فريزر وريناخ Reintach أن أمثال هذه الصور قُصد بها أن تكون رسوما سحرية تأتي بالحيوان في قبضة الفنان أو الصائد ، وبالتالي تأتي به إلى معدته. ومن الجائز أنها رسوم لم يقصد بها إلا إلى الفن الخالص. دفع إليها الإبداع الفني وما يصاحبه من لذة فنية خالصة؛ ذلك لأن أغلظ الرسوم كان يكفي لتحقيق غايات السحر ، على حين ترى هذه الصور في كثير من الحالات قد بلغت من الرقة والقوة والمهارة حداً يوحي إليك بما يحزنك ، وهو أن الفن- في هذا الميدان على أقل تقدير- لم يتقدم كثيراً في شوط التاريخ الإنساني الطويل ؛ فها هنا الحياة والحركة والفخامة قد عُبّر عنها تعبيراً قوياً أخاذا بخط واحد جريء أو خَطين ؛ وهاهنا خَط واحد يصور حيواناً حياً مهاجماً"أم هل تكون سائر الخطوط قد محاها الزمن؟" تُرى هل تبقى صورة العشاء الأخير لـ ليوناردو ديفينشي Leonardo أو صورة الإدعاء للرسام إلجريكو El Greco كما بقيت رسوم كرومانيون فتظهر خطوطها وألوانها بعد عشرين ألف عام؟.

إن التصوير فن مترف ، لا يظهر إلا بعد قرون طوال تنقضي في تطور عقلي وفني ؛ ولو أخذنا بالنظرية السائدة اليوم ، ومن الخطر دائما أن تأخذ بالنظريات السائدة ، فالتصوير قد تطور عن صناعة التماثيل ، التي بدأت بتماثيل كاملة ، ثم تطورت إلى تماثيل بارزة على لوحة منحوتة ، وعن هذه جاءت خطوة التصوير بالخطوط والألوان ؛ وإذن فالتصوير عبارة عن نحت نقص بعد من أبعاده ؛ والخطوة الوسطى من فن ما قبل التاريخ تراها ممثلة خير تمثيل في نحت بارز يدهشك بقوة وضوحه ؛ والنحت تمثال لرجل رامٍ بسهم أو بحربة وهو منقوش على الصخور الأورجناسيّة بلوسل في فرنسا؛ وكَشَفَ لوي بجوان Louis Begouen في كهف بأربيج في فرنسا- بين آثار مجدلية أخرى عن كثير من المقابض المزخرفة صنعت من قرون الأوعال ؛ وأحد هذه المقابض يدل على فن ناضج ممتاز ، كأنما كان الفن عندئذ قد إجتاز أجيالا من التدريب والتطور؛ وكذلك ترى في أرجاء البحر الأبيض المتوسط منذ عهد ما قبل التاريخ- في مصر وكريت وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا- صوراً لا عدد لها لنساء سمينات قصيرات تدل إما على عبادة هؤلاء الناس للأمومة ، وإما على تصوير الإفريقيين عندئذ للجمال ؛
واستخرجت من الأرض في تشكوسلوفاكيا تماثيل حجرية لحصان وحشي ووعل وماموث، وجدت بين آثار ترجع- على سبيل الشك- إلى سنة 000ر30 ق.م. إن تفسيرنا لسير التاريخ على أنه سير إلى الأمام ، لينهار من أساسه إذ شككنا في أن هذه التماثيل وهذه النقوش البارزة وهذه الصور- على كثرة عددها- قد لا تكون إلا جزءاً صغيراً جداً من الفن الذي عبر به الإنسان البدائي عن نفسه، أو الذي زَيَّنَ به حياته؛ إن ما بقى لنا كله في كهوف، حيث عَزَّ على عوامل المناخ أن تتسلَّل إليها فتفسدها ، ولكن ذلك لا يقتضي أن إنسان ما قبل التاريخ لم يكن فناناً إلا حين سكن الكهوف؛ فربما نحتوا في كل مكان كما يفعل اليابانيون ، وربما أكثروا صناعة التماثيل مثل اليونان ، وربما لم يقتصروا في تصويرهم على صخور الكهوف ،
بل صوروا كذلك رسومهم على أقمشة وخشب وعلى كل شيء آخر- غير مستثنين أجسامهم ؛ ربما أبدعوا في الفن آيات تفوق بكثير هذه القطع التي بقيت لنا ؛ ففي أحد الكهوف وجدنا أنبوبة مصنوعة من عظم الوعل وملآنة بمادة ملونة لجلد الإنسان ؛ وفي كهف آخر وجدنا لوحة مصور فنان مما يوضع عليه الألوان عند التصوير ، وجدناها لا تزال تحمل على سطحها طلاء مَغْرَةٍِ "تراب حديدي" أحمر ، على الرغم من مائتي قرن مضت عليه؛ فالظاهر أن الفنون بلغت درجة عالية من التطور ، واتسع نطاقها بين الناس منذ ثمانية عشرة ألف عام ؛ فيجوز أن قد كان بين أهل العصر الحجري القديم فنانون محترفون ، ويجوز أن قد كان بينهم كذلك همج متأخرين يتضورون جوعا ويسكنون الكهوف الحقيرة ، حيث ينكرون الطبقات الغنية من التجار ، ويتآمرون على قتل المجاميع العلمية ، ويصنعون بأيديهم أشياء وصلت إلينا فأصبحت تُحفَا.

العصر الحجري
آيته العظمى هي النار ، وفي ذلك أشار دارون إلى أن حمم البراكين الحار قد يكون هو الذي علمّ الإنسان ما النار؛ ويقول لناأسخيلوس إن برومثيوس صنع النار بإشعاله حَطَبةً في فوهة بركان مشتعل على جزيرة لمنوس ؛ وبين آثار إنسان النياندرتال قِطَعُّ من الفحم وقطع من العظم المحترق ، وإذن فالنار التي صنعها الإنسان تذهب في القِدَم إلى أربعين ألف عام مضت. وقد أعد إنسان "كرو- مانيون" لنفسه آنية خاصة تمسك الشحم الذي كان يشعله ليستضيء بضوئه، وإذن فالمصباح كذلك له من العمر هذا الزمن الطويل ؛
والراجح أن تكون النار هي التي مكنت الإنسان من إتقاء البرد الناشئ عن الجليد الزاحف ؛ وهي التي أتاحت له النوم في الليل آمنا من الحيوان الذي إرتعد لهذه الأعجوبة إرتعاداً يَعدِل عبادة الإنسان البدائي إياها ؛ وهي التي قهرت الظلام فكانت أول عامل من العوامل التي حَدَّت من الخوف ، والتقليل من خوف الإنسان أحد الخيوط الذهبية في نسيج التاريخ الذي ليست كل خيوطه ذهبا ، وهي التي أدت أخيرا إلى صهر المعادن وإلتحام بعضها في بعض ، وهي الخطوة الوحيدة الحقيقية التي تقَدَمها الإنسان في فنون الصناعة من عهد إنسان "كرو- مانيون" إلى عصر الإنقلاب الصناعي.
وإننا لنروي لك عجبا- وكأنما نرويه لنوضح قصيدة "جوتييه" على الفن الجبار الذي يحيا بعد فناء الأباطرة وزوال الدول- إننا نروي لك عجباً إذ نقول إن أوضح آثار خلفها لنا إنسان العصر الحجري القديم هي قِطَع من فنه؛ فقد حدث منذ ستين عاما أن وقع "السنيور مارسلينو دي سوتولا" Marceleno de Soutuola على كهف واسع في مزرعته في "أَلتَاميرا" في شمال أسبانيا، وكان هذا الكهف قد لبث آلاف الأعوام مقفل الباب كأنه صومعة راهب، أقفلته صخور سقطت عليه وأمدتها الطبيعة بملاط من لدنها حين ربطت بعضها ببعض بأعمدة من رواسب؛ ثم جاء الإنسان فضرب في هذا الموضع بضرباته لينشئ لنفسه جديدا، فإذا به يكشف بضرباته عن مدخل الكهف بطريق المصادفة؛ ومرت بعدئذ ثلاثة أعوام ثم جاء "سوتولا" ليستطلع الكهف فلحظ على جدرانه علامات غريبة ؛ وذات يوم صحبته إبنته الصغيرة ، ولما لم تكن بذات طول يُلزمها الإنحناء كما كانت الحال مع أبيها ، فقد صعَّدت بصرها نحو السقف تشهد ما فيه ، فرأت تخطيطا غامضاً لبَيزُونٍ ضخم "البيزون هو ثور بريُّ".

جميع الرسم ناصع الألوان ؛ فلما فُحص السقف وفُحصت الجدران فحصاُ دقيقاً وجدت صور أخرى كثيرة ، وفي عام 1880 نشر "سوتولا" تقريراً عن مشاهدته ، فقابله علماء الآثار بريبة هي من خصائصهم دائماً ؛ وتفضل عليه بعض هؤلاء العلماء بزيارة يفحص فيها تلك الرسوم ، وينتهي بها إلى الإعلان بأن الرسوم زائفة خطتَّها يد خادعة؛ ودام هذا الشك- الذي ليس لأحد أن يعترض عليه مدى ثلاثين عاماً؛ ثم أكتُشِفت رسوم أخرى في كهوف يُجمع الرأي على أنها من عهد ما قبل التاريخ "مما فيها من آلات صَوَّانية غير مصقولة وعظم وعاج مصقولين" فأيدت ما كان وصل إليه "سوتولا" من رأي لكن "سوتولا" عندئذ لم يكن على قيد الحياة؛ وجاء الجيولوجيون إلى ألتاميرا وأقروا بإجماع أدرك الحقيقة بعد أوانها ، أقروا بإجماع أن الرواسب التي كانت تغطي بعض الرسوم إنما ترجع إلى العصر الحجري الأول وأن الرأي السائد الآن هو أن رسوم ألتاميرا- والجزء الأكبر من بواقي الفن التي بقيت لنا من عهد ما قبل التاريخ- ترجع إلى العهد المجدلي؛ أي إلى عهد يقع نحو سنة 000ر16 ق.م؛ وكذلك وجدت رسوماً أحدث تاريخا من هذه بقليل ، لكنها ما زالت من بقايا العصر الحجري القديم ، في كهوف كثيرة في فرنسا.

وتمثل الرسوم في معظم الحالات صنوفا من الحيوان- أوعالا وماموث وجياداُ وخنازير ودببة وغيرها؛ وربما كانت هذه الصنوف عن إنسان ذلك العصر طعاما شهيا ، ولذلك كانت موضع عنايته في صيده؛ وأحيانا نرى صورة حيوان مطعونا بالسهام ، ومن رأى فريزر وريناخ Reintach أن أمثال هذه الصور قُصد بها أن تكون رسوما سحرية تأتي بالحيوان في قبضة الفنان أو الصائد ، وبالتالي تأتي به إلى معدته. ومن الجائز أنها رسوم لم يقصد بها إلا إلى الفن الخالص. دفع إليها الإبداع الفني وما يصاحبه من لذة فنية خالصة؛ ذلك لأن أغلظ الرسوم كان يكفي لتحقيق غايات السحر ، على حين ترى هذه الصور في كثير من الحالات قد بلغت من الرقة والقوة والمهارة حداً يوحي إليك بما يحزنك ، وهو أن الفن- في هذا الميدان على أقل تقدير- لم يتقدم كثيراً في شوط التاريخ الإنساني الطويل ؛ فها هنا الحياة والحركة والفخامة قد عُبّر عنها تعبيراً قوياً أخاذا بخط واحد جريء أو خَطين ؛ وهاهنا خَط واحد يصور حيواناً حياً مهاجماً"أم هل تكون سائر الخطوط قد محاها الزمن؟" تُرى هل تبقى صورة العشاء الأخير لـ ليوناردو ديفينشي Leonardo أو صورة الإدعاء للرسام إلجريكو El Greco كما بقيت رسوم كرومانيون فتظهر خطوطها وألوانها بعد عشرين ألف عام؟.

إن التصوير فن مترف ، لا يظهر إلا بعد قرون طوال تنقضي في تطور عقلي وفني ؛ ولو أخذنا بالنظرية السائدة اليوم ، ومن الخطر دائما أن تأخذ بالنظريات السائدة ، فالتصوير قد تطور عن صناعة التماثيل ، التي بدأت بتماثيل كاملة ، ثم تطورت إلى تماثيل بارزة على لوحة منحوتة ، وعن هذه جاءت خطوة التصوير بالخطوط والألوان ؛ وإذن فالتصوير عبارة عن نحت نقص بعد من أبعاده ؛ والخطوة الوسطى من فن ما قبل التاريخ تراها ممثلة خير تمثيل في نحت بارز يدهشك بقوة وضوحه ؛ والنحت تمثال لرجل رامٍ بسهم أو بحربة وهو منقوش على الصخور الأورجناسيّة بلوسل في فرنسا؛ وكَشَفَ لوي بجوان Louis Begouen في كهف بأربيج في فرنسا- بين آثار مجدلية أخرى عن كثير من المقابض المزخرفة صنعت من قرون الأوعال ؛ وأحد هذه المقابض يدل على فن ناضج ممتاز ، كأنما كان الفن عندئذ قد إجتاز أجيالا من التدريب والتطور؛ وكذلك ترى في أرجاء البحر الأبيض المتوسط منذ عهد ما قبل التاريخ- في مصر وكريت وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا- صوراً لا عدد لها لنساء سمينات قصيرات تدل إما على عبادة هؤلاء الناس للأمومة ، وإما على تصوير الإفريقيين عندئذ للجمال ؛

واستخرجت من الأرض في تشكوسلوفاكيا تماثيل حجرية لحصان وحشي ووعل وماموث، وجدت بين آثار ترجع- على سبيل الشك- إلى سنة 000ر30 ق.م. إن تفسيرنا لسير التاريخ على أنه سير إلى الأمام ، لينهار من أساسه إذ شككنا في أن هذه التماثيل وهذه النقوش البارزة وهذه الصور- على كثرة عددها- قد لا تكون إلا جزءاً صغيراً جداً من الفن الذي عبر به الإنسان البدائي عن نفسه، أو الذي زَيَّنَ به حياته؛ إن ما بقى لنا كله في كهوف، حيث عَزَّ على عوامل المناخ أن تتسلَّل إليها فتفسدها ، ولكن ذلك لا يقتضي أن إنسان ما قبل التاريخ لم يكن فناناً إلا حين سكن الكهوف؛ فربما نحتوا في كل مكان كما يفعل اليابانيون ، وربما أكثروا صناعة التماثيل مثل اليونان ، وربما لم يقتصروا في تصويرهم على صخور الكهوف ،

بل صوروا كذلك رسومهم على أقمشة وخشب وعلى كل شيء آخر- غير مستثنين أجسامهم ؛ ربما أبدعوا في الفن آيات تفوق بكثير هذه القطع التي بقيت لنا ؛ ففي أحد الكهوف وجدنا أنبوبة مصنوعة من عظم الوعل وملآنة بمادة ملونة لجلد الإنسان ؛ وفي كهف آخر وجدنا لوحة مصور فنان مما يوضع عليه الألوان عند التصوير ، وجدناها لا تزال تحمل على سطحها طلاء مَغْرَةٍِ "تراب حديدي" أحمر ، على الرغم من مائتي قرن مضت عليه؛ فالظاهر أن الفنون بلغت درجة عالية من التطور ، واتسع نطاقها بين الناس منذ ثمانية عشرة ألف عام ؛ فيجوز أن قد كان بين أهل العصر الحجري القديم فنانون محترفون ، ويجوز أن قد كان بينهم كذلك همج متأخرين يتضورون جوعا ويسكنون الكهوف الحقيرة ، حيث ينكرون الطبقات الغنية من التجار ، ويتآمرون على قتل المجاميع العلمية ، ويصنعون بأيديهم أشياء وصلت إلينا فأصبحت تُحفَا.

طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى