مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* ظلال واشباح

اذهب الى الأسفل

* ظلال واشباح Empty * ظلال واشباح

مُساهمة  طارق فتحي الجمعة أغسطس 03, 2018 12:33 am

ظلال واشباح  1
طارق فتحي
يحيى رشيد اول مولود ذكر رزق به الفلاح رشيد من زوجته الثانية بعد ثلاثة بنات رزق بهن من زوجته الاولى من اصول تركية كان قد اقترن بها في زمن السفر برلك في بدايات القرن العشرين المبكرة. شاءت الاقدار ان تتوفى ام يحيى اثناء ولادته مباشرةً . تزوج رشيد من امرأته الثالثة وانجب منها خمسة اولاد وخمس بنات .
نشأ وترعرع يحيى في اجواء ريفية جميلة وشب عن الطوق فاصبح شابا يافعاً وسيماً. دبت الغيرة في اخوته واخذوا يحسدونه كونه الابن البكر للعائلة الفلاحية البسيطة ولحسن هيئته وهندامه حيث كان طويل القامة الى النحافة اميل ذو بشرة بلون سنابل القمح الذهبية .
بزت الفتنة بقرنيها بين اخوته واخذوا يغلبون الاب عليه مما جعله يرزخ تحت نير ووطئة ومشقة العمل في الزراعة وغيرها في اراضي املاك ابيه الشاسعة والممتدة الاطراف لحقول القمح والشعير . اضافة الى مسؤوليته في ادارة بساتين المحاصيل الغذائية بما تحوية من خضار ومنتوجات اخرى .
هرب رشيد من ظلم وتعسف ابيه واخوته مهاجراً قريته الى العاصمة العراقية بغداد بعيد  ثورة العشرين التي اندلعت شرارتها في جنوب العراق . ولما لم يجد له عملا مناسباً تطوع في الجيش العراقي الباسل الذي تأسس بعد عام من اندلاع ثورة العشرين . وحين اكمل دراسته الابتدائية رقي الى رتبة ضابط رواتب . واخذ يجول في محافظات العراق الجنوبية والشمالية تبعاً لوظيفته العسكرية.
استقر به المقام في محافظة بابل مدينة الحلة وهناك تعرف على فتاة غاية في الحسن والجمال ودماثة الاخلاق فكان الحب اقوى ما يربطهما. خلال عام كامل تأطرت عرى الصداقة والحب بينهما حتى شاع خبرهما عند اهلها فتقدم لخطبتها وتمت الموافقات اللازمة بحسب التقاليد التي كانت سائدة آنذاك .
اهل خطيبته امهلوه فترة من الزمن لزف عروسه اليه بسبب ظروفه المادية والوظيفية ولما حانت ساعة الحقيقة سافر يحيى الى قريته لجلب المزيد من المال ليتمكن من الايفاء بوعوده لخطيبته الحسناء. بعد غياب سبعة عشر عاما عن الاهل والعشيرة . تفاجأ يحيى بالوضع المتردي لحال اهله بعد ان كانوا ملاكا اصبحوا فلاحين اجراء يعملون لدى الغير بعد ان استولت الدولة على املاكهم بحجة قانون الاصلاح الزراعي . فلم يتركوا لهم سوى دونمات قليلة لا تتعدى اصابع الكف الواحدة.
استقبل بحفاوة من قبل ابيه رشيد وكانت دبلوماسية اخوته في استقباله قد فشلت فشلا ذريعا. الا ان اخواته الشقيقات عوضنه ذلك الحرمان والبؤس الذي عانه من جفاء اخوته له. وبعد التشاور في الامر بينهم رأى وجهاء العشيرة وشيوخها الكبار تزويجه من بنت شيخ عشيرة مرموقة معلومة الحال لدى جميع سكان القرية  . تمت الزيجة في نفس القرية بحضور الاهل والاقارب والاحباب .
عاد بعروسه الجديدة الى بغداد واستقر بهما المقام فيها حتى انجبت له خمسة اولاد وبنتان. استطاع ان يشتري بيت عتيق بعض الشيء من طابقين الطابق العلوي مهجور. شارك في حرب عام 1948 كرم بقلادة الشجاعة مع آمره عبد الرحمن عارف الذي اصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية العراقية .
بعد عودته من الحرب كرم بان يكون احد اعضاء تشريفات الملك فيصل الثاني اثناء تتويجه ملكا للعراق. وانتهت مهامه الرسمية باحالة نفسه الى التقاعد . هنا بدأت مرحلة جديدة من حياة يحيى تتسم بظلال واشباح ارعبت كل من حوله وكيف تحولت حياة هذا الريفي الشهم ذي المروءة والشرف  مائة وثمانون درجة بعكس الاتجاه. ومن هنا كانت البداية .؟





ظلال واشباح  2
طارق فتحي
كان ليحيى زميلله في وحدته العسكرية تعرف اليه في بابل مدينة الحلة اثناء تواجدهما في تأدية واجباتهما العسكرية يدعى عبد الرحمن حسن حياوي . حيث كانا يتقاسمان نفس الغرفة كل على سريره. وكان شابا طويلا بعض الشيء نحيفا بشكل مخيف جريء الى حد الدهشة مغامر لا تحكمه مبادي ذلك الزمان متمرد بعض الشيء .
بحث يحيى كثيراً عن عمل مدني يناسبه في بغداد لمواجهة نفقات اسرته التي اخذت تكبر يوما بعد يوم فبدون عمل تجاري او صناعي لا يستطيع ان يستمر في مواجهة الحياة وتعقيداتها سيما وافكاره الريفية وانضباطه العسكري يمنعانه من مزاولة اي عمل لا يليق بهاتين الصفتين .
اقنعه احد اصدقائه القدامى وزميله السابق في وحدتهالعسكرية ان يعمل في مجال الكتب والمطبوعات الثقافية والادبية . اتفق الاثنان على اكتراء كشك صغير في الرصيف المجاور لمدرسة الراهبات في مقدمة جسر الجمهورية باتجاه شارع السعدون لبيع الجرائد والمجلات الفنية . وكان لهما ما ارادا . استمر العمل شهور قليلة واطلع يحيى على عالم الفن والادب الامر الذي اثر في حالته النفسية بشكل غريب واعتبر الامر اسفافا وخروجا عن استقامة الاخلاق البشرية .
على الاخص تلك المجلات التي كانت تأتي عن طريق لبنان البلد العربي الشقيق مثل الموعد والشبكة وغيرهما اضافة الى سلسلة كتيبات الدكتور صبري القباني بعنوان طبيبك وغيرهما من الاصدارات . وكانت تأتي من مصر مجلات منها آخر ساعة والعالم وحواء وكتيبات مثل الهلال وكتابي وموسوعات صغيرة للتعريف بالكتاب والادباء العرب من امثال نجيب محفوظ والعقاد ومصطفى لطفي المنفلوطي ويوسف السباعي  اضافة الى روز اليوسف.ومن الكويت مجلة العربي لرئيس تحريرها امين الهويدي وبعض الجرائد والصحف المحلية.
كان شريكه في الكشك يسافر كثيرا الى لبنان ومصر ليرتب الصفقات وتجهيز المطبوعات في هذا المجال اذ صادف انتشار الظاهرة الثقافية في بغداد بشكل ملفت للنظر حتى طافت مقولة في جميع انحاء الوطن العربي بالثالوث الثقافي العربي ( مصر تؤلف ولبنان تطبع والعراق يقرأ) .
تعرف هذا الاخير على شخصيات عراقية تعمل في مجال الثقافة والادب والفن بحكم الترويج لبضاعته وغيرها ونظرا لجرأته ومثابرته استطاع ان يكسب ود الشيخ جلال الحنفي قبل سفره الى الصين لاغراض تدريس اللغة العربية والحاج قاسم الرجب صاحب المكتبات العراقية المعروف في الباب الشرقي وشارع المتنبي .
سافر يحيى بعص الوقت بمعية شريكه مرات قليلة الى بيروت والقاهرة حيث كان يؤثر العزلة عن الاختلاط بناس ايام زمان وهذه ظاهرة معروفة لدى المجتمع العراقي بسبب فوبيا ابن الريف من ابن المدينة . فما بالك بالعاصمة العراقية بغداد حيث كان اسمها يتردد صداه في كل انحاء الوطن العربي لما لها من مكانة تاريخية عظيمة حيث كانت العاصمة الاسلامية للخلافة العباسية .
لم يستطع يحيى مقاومة الجنون المفاجي لشريكه عبد الرحمن وتصرفاته العنترية الغير المسؤلة  ومفاجأته التي كادت تطيح بعقل زميله وشريكه يحيى من لعب ولهو وحب وجد. فقرر اخيرا ان يكسب راحة باله ويحافظ على ما تبقى لديه من مباديء واخلاق بالكاد استطاع ان يتدثر بها . ترك العمل في الكشك وانفصل عن شريكه حيث اصبح يرتاد المقاهي والجلوس فيها ساعات طوال لا يحسن كيف يفكر لايجاد عمل جديد له .


ظلال واشباح  3
طارق فتحي
اعيا يحيى الجلوس في المقاهي  وسؤال كل من هب ودب عن ايجاد فرصة عمل له . الى ان شاء القدر ان يجلس احدهم بجانبه لعدم اتساع المكان وامتلاء المقهى عن اخره . لاحظ هذا الشخص يحيى وهو يكتب في قصاصة ورقية امامه متطلبات وحاجات البيت الضرورية لجلبها في اقرب وقت ممكن . رفع الرجل ناظريه من على الورقة ورمق يحيى بنظرة تعجب.
ان خط يدك جميل جداً وعلى الاخص كتابة الارقام . لم يجبه يحيى باي شيء ولم يلتفت اليه واعتبره احد الفضوليين الذين تعج بهم المقهى. اردف الرجل قائلا ان عرضت عليك العمل معي هل توافق. هنا انتفض يحيى كالمصروع والتفت بصورة جنونية نحو الرجل الجالس بجانبه فاغرا فاه محدقاً عيناه دون ان ينبس ببنت شفة . نهض الرجل مسرعا مرعوبا وهو يهم بمغادرة المقهى خوفا مما لا يحمد عقباه , لحقه يحيى الى باب المقهى . لماذا هربت مني .؟ الرجل انت اخفتني سيدي . لامانع لدي من العمل معك . فخرجا سوية.
في اليوم التالي دلف يحيى الى احد الدكاكين الصغيرة المنشرة على طول قارعة الرصيف في منطقة تدعى ( العبخانة ) بقرب دائرة للكهرباء الوطنية . الدكان مخصص لكتاب العرائض ومنها خط ارقام الدور السكنية والمحلات التجارية حديثة البناء. واستمر يحيى في مهنته الجديدة مايقارب العام الواحد. حتى اتته يوماً ما امرأة في عقدها الاربعين تملك عمارة حديثة البناء آلت ملكيتها اليها بعد وفاة زوجها ليخط لها يحيى ارقام متسلسلة لجميع مرافق هذه العمارة وقتها كان يحيى مشهورا بين كتاب العرائض في منطقة العبخانه بحسن خطة وجميل كتابته.
تطورت العلاقة بينه و المرأة الاربعينية. فكانت النظرات تلتقي على امر قد  دبر بليل والقلب ينبض شوقا وهياما في حب يحيى ذلك الفلاح الوسيم طويل القامة عريض ما بين المنكبين تفوح منه رائحة الرجولة من على بعد عدة امتار . بعد التي واللتية علم يحيى بامرها ولكنه لم يستطيع تجاوز حدود اخلاقياته ومرؤته وشهامة اهل الريف .
عملت المراءة المستحيل مع يحيى لاستمالته اليها حتى انها وهبته عمارة صغيرة قديمة جدا ايلة للسقوط مكونة من ثلاث طوابق بمساحة ارضية لا تتجاوز الستون مترا قد حشرت حشراً بين عمارتين كبيرتين بمساحات واسعة. فعلا قامت المرأة بتسجيل العمارة باسمه في دائرة عقارات الدولة ( الطابو ) . هنا علم الجميع بامره واخذوا ينابزوه الالقاب وبين الغمز واللمز ترك يحيى عمله هذا واستثمر العمارة لاحد معامل صناعة حقائب السفر الجلدية آنذاك علما ان الغرفة العلوية غير صالحة للعمل لسقوط بعض من جدرانها .
بقيت العلاقة بين مد وجزر صحيح ان يحيى اصبح ميسور الحال نوعما الا انه لا يحتمل الجلوس في البيت . بعدها اشرف يحيى على بناء دار جديدة لحساب المرأة في منطقة الطالبية في بغداد وبعد سنة تقريبا اكتمل بناء الدار ولم يتقاضى يحيى عن عمله معها طيلة العام الكامل اية نقود ايفاءا منهبالعرفان لجميل تعاملها معه وجميل صنعها.
اكرمته هذه المرأة بايجاد عمل له في مكتب للحسابات يديره شركاء زوجها في شارع الرشيد بعمارة ( الدفتر دار ) من شارع النهر المحاذي لنهر دجلة قرب محكمة الاحوال الشخصية لعقود الزواج وكان له ذلك واستمر في عمله الجديد . من هنا تغيرت حالته من حال الى حال وتبدلت عنده الاحوال حتى اصبح قريبا من تحقيق جميع الامال .




ظلال واشباح  4
طارق فتحي
كان مكتب المحاسبة الذي عمل فيه يحيى مؤخرا مكتضا بالعمل المحاسبي لاعداد الميزانية العمومية للشركات الاستثمارية والتجارية وغيرها لاغراض التحاسب الضريبي للدولة . مرت من امامه اسماء شركات لم يكن يحيى قد سبق له ان سمع بها كالشركات الخدمية المحيرة التي لم يكن يعتقد بوجودها في بلد عربي كالعراق ذو التاريخ المشرف عبر القرون
تعرف خلال عمله على شخصيات مرموقة لها حضوة ومكانة في ذلك الزمان بين اركان الدولة الملكية وشخوصها المقربين من دائرة القرار السياسي والاجتماعي وغيرها. توطت عرى الصداقة مع مولود مخلص الثري وشخص آخر طبيب عراقي من اصول يهودية يدعى ( جاك عبود ) مختص بالامراض النفسية والعقلية مع شخص آخر استماله يحيى الى جانبه بكل قوة يدعى بديع او ( وديع ) صاحب اول مطبعة ادخلت للعراق في منطقة الكاظمية وهي مطبعة الاعتماد وكان هذا الاخير يملك خان قديم في شارع المتنبي لحفظ وخزن الكتب والمطبوعات الاخرى بغية تجهيزها لتوزيعها على العملاء والزبائن .
تلقى يحيى كم هائل من المعلومات الثقافية وغيرها في مختلف مناحي الحياة حتى اضحى فيلسوف زمانه وعصره واوانه . على ما يبدو كانت الجلسات مع شلة من اعيان البلد في المكتب المحاسبي والتسامر يوميا في مواضيع شتى قد اوتي ثمارها . حيث سافر يحيى مع صديقه مولود مخلص الى  القاهرة للسفر والسياحة والاستجمام مكثا هناك شهرا واحدا او ما يزيد بقليل . وبعد مضي اشهر قلائل سافرا ايضا معا الى بيروت للغرض نفسه. كانت هذه السفرة بمثابة نقطة تحول ليحيى بعكس اتجاه عقارب الساعة وبشكل جنوني .
تعلم يحيى في سفرته الاخيرة اللعب باوراق القمار ( الكوتشينة ) حيث فك اسرارها وقواعدها وحل الغاز طلاسمها وشفراتها السرية واتقن قواعد اللعب بالورق بشكل مخيف وكثرا ماكان يبز اقرانه في اللعب ويبتز جيوبهم ايضا. كان من الطبيعي ان يحتسي يحيى الخمر مقرونا باللعب حيث كانت اغلب هذه الجلسات تصاحبها الخمرة بجميع انواعها وماركاتها العالمية والمحلية . بين ليلة وضحاها اصبح يحيى مدمنا للخمر بشكل مخيف .
وحدث ما لم يكن في الحسبان ولا يخطر على بال انسان حيث قامت ثورة 14 تموز من العام 1958 بقيادة الزعيمين عبد السلام محمد عارف وعبد الكريم قاسم مع شلة من الضباط الاحرار كما كان يسمون انفسهم وتم القضاء بشكل جنوني على افراد الاسرة الملكية الحاكمة آنذاك بالكلية ولم ينجو منهم حتى الخدم والطباخ الملكي الخاص . وتم اعلان الجمهورية العراقية على انقاض الحكم الملكي في العراق  حيث انفرد الاخير بحكم العراق وكان الدم المهراق يطرز شوارع بغداد وبعض ازقتها وشوارعها وانتشرت رائحة الموت في محافظات اخرى فكان قطار السلام الذي ذبح اهالي نينوى الموصل وعرج هذا القطار بسرعته الجنونية ليحصد ارواح هذا الشعب المغلوب على امره في محافظة كركوك اضافة الى الصمت الرهيب الذي خيم على العاصمة العراقية بغداد .
لم يعد امام يحيى سوى اعادة الجلوس في ذلك المقهى العتيد ليجتر احزانه متذكرا زهو ايامه بعد ان تفككت عرى الصداقة بينه واصدقاءه القدامى الذين فر كل منهم الى وجهةً اختاروها ومنهم من سافر طلبا للآمان  الى خارج الوطن واثر العيش في بعض الدول العربية والاوربية . كل بحسب ظروفه السياسية والاجتماعية . حينها لم يجد يحيى مناصا من تقديم طلب التماس للعودة الى الى وظيفته السابقة في الجيش العراقي والغاء تقاعده العسكري وكان له ما اراد .


ظلال واشباح  5
طارق فتحي
مارس يحيى وظيفته العسكرية بشكل جيد واصبح مسؤولا عن حسابات الوحدة من نفقات ادارية وخدمية وتوزيع رواتب الجنود والمراتب الاخرى واصبح كفوا في عمله الجديد. بدأت القلاقل والفتن تدب في افكار قادة الثورة وكل يغني على ليلاه وانفرد عبد الكريم قاسم في الحكم واقصى عبد السلام محمد عارف .
اضطربت البلاد بسبب اعدام الضباط الاحرار في جامع ام الطبول وشكلت محكمة المهداوي نموذجا صارخا للعنجهية والاستبداد مدفوعة بموافقة الزعيم الاوحد الذي كان يحكم البلاد فكان يا ما كان من انقلاب الوضع وانفلات الامن والامان واستطاع الحزب الشيوعي ان يلين عريكة الزعيم الاوحد كرها او طواعية ويؤلبه ضد الاحزاب المعارضة الاخرى اضف الى ذلك حمامات الدم الذي حدثت في الموصل وكركوك راح ضحيتها الالاف بحجة الاختلاف في العقيدة والمباديء ومناصرة اعداء الوطن ويقصد بهم القوميون العرب والبعثيين .
في ظل هذا الوضع المأساوي اضطر يحيى الى  تقديم استقالته ثانية بعد ان اتهم بميله للحزب الناصري القومي العروبي نسبة الى جمال عبد الناصر قائد انقلاب المصريين على الحكم الملكي في العام 1952 . كانت الشعوب العربية تملك الحس المشترك وانتمائها الى القومية العربية التي ازدهرت حينها ويحيى احد افراد الشعب العربي في العراق امتلك الحس نفسه .
لملم يحيى شتا نفسه وفتح له محلا لبيع المرطبات . يومها بدأت المضاهرات العمالية والطلابية شيئا مألوفا في بغداد وكانت الحشود تختلط في كل مناسبة تأيدا لقرارات مجلس قيادة الثورة المتمثلة برئيس الوزراء عبد الكريم قاسم. وغالبا ما كان المتظاهرون يوزعون الصور الورقية في كل مناسبة وفي احداها توفي ( كامل قزنجي ) احد انصار الثورة المزعومين . حينها اتت مظاهرات احياءا لذكرى وفاته.  ولما لم يروا صور الزعيم والشهيد معلقة في نشرة ضوئية تتدلى امام المحل من الداخل غضبوا من يحيى كثيرا واخذوا يسمعونه الكلام الفاحش .
تقدم احد قادة المظاهرات واعطاه ثلاث صور لكاملالقزنجي ووعدوه ان يمرقوا عليه ثانية ليروا صور الزعيم معلقة. مرت الايام ثقيلة على يحيى هذا الرجل الريفي البعيد  جدا عن ثقافة الاحزاب والمذاهب المتناحرة فيما بينها وهو لا يلوي على شيء سوى ان يعيش حياة كريمة ومستقيمة محاولا جهده الحفاظ على حياته واسرته.
ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة
يا جمال خشمك شطولة وشكري يدكلك ما صولة المقصود السوري ( شكري القوتلي )
يا جمال العفلقيياغبي يا ابن الغبي الشعب ما يريد وحدة يا عميل الاجنبي
ماكو زعيم الا كريم موتوا يا بعثية
بعد شهر ماكو مهر ونذب القاضي بالنهر
عاشالزعيمالزيدالعانةفلس
صمت هذه الشعارات اذان الشعب اثر مظاهرة كبيرة مرقت من امام محل يحيى عندها كانت الصدمة اذ وجدوه لم يعلق صور للزعيم الاوحد وصور كامل قزنجي الصقها بجانب دوارق الشربت الكبيرة وكانت الصور  مليئة بالقاذورات من مخلفات الذباب. هنا امسكوا بتلابيبه وحاولوا اعدامه امام الملآ ونعته باقذر الصفات واتهامه بالقومية تارة وبالبعثية اخرى وبالناصرية اخيراً.
وحده الله بعلم كيف افلت يحيى من الاعدام شنقاً بعد ان سرقوا مقتنيات المحل وكسروا دوارق الشربت الكبيرة وسرقوا ما في حوزته من نقود من داخل المحل. المهم نجى يحيى من موت محقق كان سيحدث له على ايدي بعض الغوغاء من المتظاهرين المنفلتين من تعاليم اسيادهم متملقين لقادتهم في اظهار ولائهم وهم بعيدين كل البعد عما يظهرون.
عاد يحيى الى نفس المقهى يجتر احزانه وبؤسه وما آلت اليه الامور من خراب في الضمائر والنفوس .

ظلال واشباح  6
طارق فتحي
عاد يحيى المخضرم الذي عاش عصرين متناقضين بكل التفاصيل السياسية والاجتماعية المملة حينا والمقرفة احيانا . جذبه شغفه للبحث عن عمل يتقوت به ولم يفلح . ودارت الايام ذاق فيها يحيى شظف العيش وايجار عمارته المتهرئة لم تدر له المال الكافي وهو الذي تعود على البذخ في مصروفاته حتى استمع في المقهى الى بيان رقم واحد وعلم ان حدث انقلاب عسكري والاطاحة بحكومة قاسم وشاهد بام عينيه عملية اعدام الزعيم الاوحد في دار الاذاعة العراقية في الصالحية .
انبهر جميع من كان في المقهى لهذا الحدث الجلل كان ذلك في العام 1963 . ساد الهرج والمرج في العاصمة بغداد واختلطت الامور عند الجماهير التي لا تعلم ماذا جرى للبلد من خراب ودمار على جميع الاصعدة . شعب غالبيته امي قبلي يميل الى البداوة من اصول فلاحية لا تعي من السياسة شيئاً. وبين مؤيد ومعارض تمزق النسيج الاجتماعي للبلد.
بالكاد لم تمر سنة واحدة الا وحدث انقلاب آخر ونصب عبد السلام محمد عارف الجميلي رئيسا للجمهورية العراقية اثر اانقلاب عسكري آخر وحال الجميع من الجماهير الشعبية يشبه المثل القائل ( مثل الاطرش بالزفة ) في هذه المرحلة الحرجة من حياة يحيى انغمس في لعب القمار وشرب الكحول . اصبح فوضويا غير مستقر لا يلوي على قرار وانكب على نفسه تتملكه الانانية وحب الذات وتفضيل نفسه على الاخرين واحيانا السخرية منهم . التف حوله شلة من اصدقاء السوء ورويدا رويدا اخذت مجالس القمار تسحب البساط من تحت اقدامه بالرغم من انه يكسب احيانا ولكنه يخسر الكثير حيناً. مرت سنون قلائل اعلن فيها يحيى افلاسه مما اضطره الى بيع عمارته المتهرئة في شارع الرشيد الى شخص يملك دكانا صغيرا حقيرا لبيع الفحم.
ترك يحيى لعب القمار واتجه بمعية بعض من رفاقه الى سباقات الخيل ( الريسز ) وهنا كانت المفارقة الكبيرة حيث باع داره الصغيرة الاخرى ولم يتبقى له سوى دار بمساحة صغيرة وبطراز شرقي من غرفتين فقط وحوش بمساحة صغيرة قامت زوجته بتسجيلها باسمها بعد ضغط والحاح شديدين من وجوه الخير ومختار المحلة فاصبح مفلساً تماما فعاد مرة ثانية الى مقهاه مقهى الشؤوم عليه وعلى من امثاله . اخذ يجتر حسراته الواحدة تلوة الاخرى حتى وقع مالم يكن في الحسبان .

ظلال واشباح  7
طارق فتحي
تنفس يحيى الصعداء وهو يستمع الى جملة ( خير خلف لخير سلف ) ايقن في سره ان صديقه وآمره القديم عبد الرحمن محمد عارف سيصبح رئيسا للجمهورية العراقية , سرعان ما نهض منتفضا من مجلسه واتجه الى اسرته يبلغهم الخبر المفرح . ما كان يحيى سياسيا يوما ما ولكنه كان يعشق وطنه حتى النخاع .
استتب الامر بعض الشيء تأنق يحيى لمقابلة صديقه رئيس الجمهورية . وتم اللقاء في تشريفات القصر الجمهوري معزيا بمصاب اخيه الاليم ومهنئا لتسنمه الحكم وكان من ثمرة هذا اللقاء  اعادته الى الخدمة العسكرية بغية تحسين وضعه ورفع مستواه المعاشي اذ والحالة هذه سوف يتقاعد بموجب قانون التقاعد الجديد.
استمر يحيى زهاء السنتين في الخدمة العسكرية وبعدها احال نفسه الى التقاعد بمرتب جيد يفوق مرتب تقاعده السابق باضعاف. وباكرامية جيدة قدمت له باعتباره من ذوي الخدمة الطويلة ولانصباطه وسيرته المشرفه بالخدمة . فكر يحيى ان يستثمر كم المبالغ الهائلة على حساب ذلك الزمن في عمل يجعله يحيا حياة كريمة لما تبقى من عمره.
افتتح لحسابه الخاص مكتب للمحاسبة وترويج المعاملات في دوائر الدولة .واستمر في نشاطه هذا وعمل بكد طيلة النهار واناءا من الليل. حتى بنى له دار جديدة من طابقين بعد ان باع الدار القديمة المسجلة باسم زوجته واضاف اليه مبلغا من عنده وكذلك فعل فقد سجل الدار الجديدة باسم زوجته ايضا .
يحيى لا يفقه شيئا عن امور الحب والرومانسية وعلى ما يدور حوله حيث كان يقف في المنتصف في جميع اموره ليس له قرار حاسم . ولا يصلح ان يقود مجموعة من الرجال او يبادر الى الافعال من تلقاء نفسه كان محيرا بحق, يبدي بعض الافكار الفلسفية ولا يهمه سوى الاخلاق الحميدة التي نصت عليها كل الاديان السماوية. ويعتبرها اي الاخلاق بمثابة الخيمة الكبيرة لجميع الاديان السماوية منها والوضعية .
مع ذلك انجر يحيى خلف شلة من الرجال منهم اصدقاء قدامى الى معاقرة الخمرة ولعب القمار والمشاركة في سباقات الخيل  والسهر والليالي الحمراء حتى بز اقرانه في ذلك. واخذ يبذر ماله بشكل جنوني وتصريفه على  ملذاته الشخصية. كل هذه الامور كانت تجري ولا يعلم احد من اولاده بافعاله هذه بتاتا وكان يلقب في البيت ( بسي السيد ) لسلطته وجبروته مع انه نادرا ما يشاهده اولاده الا ان زوجته هي من رسمت له هذه الصورة في اذهانهم حتى كبروا عليها . حان موعد زواج الابن البكر بعد ان اكمل دراسته الاعدادية وتم تعينه في وظيفة حكومية مرموقة .
اجتمع الناس من كل حدب وصوب رجالا ونساءا للمشاركة في فرحة هذا البيت السعيد في نظر الناس والتعيس عند زوجنه التي كانت ترفض تصرفاته وتنتقدها دوما.  الموسيقى تصدح والناس يتمايلون طربا وشجنا حتى عم الصمت المكانفجاةً وفغر الجميع افواههم محدقين بدهشة وصمت رهيبين وهم يستمعون الى خطوات امرأة ناهزت الاربعين عاما  تتبختر بغنج ودلال بين الجموع متقدمة الصفوف باتجاه يحيى وولده البكر .
هذه المرأة الغريبة التي لم يتعرف عليها احدا من الحضور كانت غاية في الرقة والجمال حسناء بكل ما للكلمة من معنى. بيضاء البشرة ذهبية اللون ممشوقة القوام الى الطول اميل عريضة المنكبين ذات اكتاف عالية وخصر جميل قد نحر الجميع وسيقان طويلة تحاكي بلورات الالماس تشع منها رائحة عطرة سلبت بها العقول قبل القلوب تقدمت الصفوف بصدرها العامر ورأسها المرفوع باتجاه يحيى وطبعت قبلة على خده الايمن وسط ذهول الحضور من اقارب وغيرهم. جلست بجواره من الجانب الآخرحيث لازال السكون يعم المكان وتوقف عند الجميع الزمان وكان يا ما كان ...


ظلال واشباح   8   والاخير  
طارق فتحي
كأن الزمان قد توقف ولف الصمت الجميع وهم يشاهدون هذه الحسناء ممشوقة القوام تطبع قبلة خفيفة على خد يحيى وسط ذهول الجميع , جلست بجانبه الايسر وابتسمت كنوع من رد التحية فهمس  الابن البكر العريس اباه , من تكون هذه يا ابتي .؟ انها يا ولدي خطيبتي من مدينة الحلة قبل ان اتزوج والدتك . فرد الابن اكفرت بنعمة ربك .! تترك هذه الملاك وتقترن بامي .؟
اقتربت زوجة يحيى لترد التهنئة لهذه الحسناء وانتهى الموقف بسلام وانفض الجميع من المكان ولم يتبقى سوى عائلته وحسب . وبعد التي واللتية كادت تنشب معركة حامية الوطيس بين الزوجين يحيى . الا ان مناسبة الفرح عطلت المشروع ليوم غير مسمى .
غاب يحيى اسبوع او ما يزيد عن البيت في سفرة ترفيهية ترويحية الى شمال الوطن وعند عودته بمعية شخص كهل كبير في السن وبنت شابه كردية غاية في الجمال الطبيعي الخلاب وتبين في ما بعد ان هذه البنت متخلفة عقليا حيث عرض يحيى مساعدتها وجلبها مع ابيها الى بغداد لعرضها على صديقه طبيب الاعصاب ( جاك عبود ) وفعلا تم ذلك الامر .
مكثت هذه الفتاة الجميلة عندهم ما يقارب العام الواحد دون اي تقدم او تحسن في صحتها بساطة يحيى وسذاجته في بعض الاحيان تجعل الاخرين متحيرين تجاهه مع انه شخص مسالم للغاية ومحب للخير ويحب مساعدة الاخرين دونما مقابل الا انه يضع نفسه احيانا في مواقف لا يحسد عليها , مثل فعلته الاخيرة مع الشابة الكردية الصغيرة .
ووسط انتقادات المجتمع القاسية لفعلته هذه قام يحيى بارجاع ضيوفه الى من حيث اتوا وانتهى الموضوع الا ان السنة الناس لم تكف وحولوا هذا العمل الانساني العظيم الى شيء اقرب الى الفاحشة منه الى عمل الخير . وهذا هو ديدن المجتمعات الجاهلة .
التنقاضات الحادة الواضحة للعيان قولا وعملا ليحيى حيرت  كل من عرفه فهو قديس ثابت المباديء محب للخير وسكير معربد حينا وناسك عابد في محرابه مع نصائحة الذهبية ومعلوماته الغزيرة تجعلك لا تصدق ان لدية صحبة من اصدقاء الشر . تصرفاته العفوية التي تميل في اغلبها الى الطفولة وهو في سن تجاوز الاربعين عاما تجعلك لا تصدق انه هو فعلا يحيى .
سيرته محيرة فهو مقدس عند قوم ووجيه عند اخرين ووضيع وتافه عند غيرهم شخصياته واصدقائة شيء عجيب وهم خليط من سادة سياسيين كبار وصل البعض منهم الى مرتبة رئيس الجمهورية وهو لا يفقه من السياسة شيئاً والبعض الاخر من اعيان الدولة واعمدتها من السياسيين وفي الجانب الاخر من حياته له صديق مقرب جدا يملك دكانا للفحم الحجري لا يقرأ ولا يكتب . وبين هذا وذاك ضاع يحيى الرجل الريفي الشهم وتبدلت احواله اوحالا .
النهايـــــــــــــــــــــــة
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى