مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* بداية الحملات الصليبية - غنائم الغرب من الحروب الصليبية - صفحات مزرية من تاريخ اليهود.

اذهب الى الأسفل

* بداية الحملات الصليبية - غنائم الغرب من الحروب الصليبية - صفحات مزرية من تاريخ اليهود.  Empty * بداية الحملات الصليبية - غنائم الغرب من الحروب الصليبية - صفحات مزرية من تاريخ اليهود.

مُساهمة  طارق فتحي السبت يوليو 23, 2011 4:46 pm

بداية الحملات الصليبية
مُساهمة  طارق فتحي في الثلاثاء 4 أكتوبر 2011 - 7:31

الحمد لله، أوجد الخلق من العدم، ورباهم بالنعم. أحمَدُه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنعم على بني الإنسان بأفئدة وأسماع وأبصار؛ حتَّى يسمعوا العِبَر، ويروا الآيات، ويتعلموا العُلوم، وقد كانوا لا يعلمون شيئًا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ أكرمه الله - تعالى - بالرسالة، وأكرم هذه الأمة به؛ فبلَّغها رسالات ربه، ونَصَحَ لها، وقادها في دعوتها وجهادها حتى توفاه الله – تعالى - صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فتلك وصيةٌ اللهِ لنا ولمن كانوا قبلنا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
أيها المُسْلِمُون: جرت في الأرض آيات وعِبَر، وحَوَى التاريخ أخبار كثير من الأمم، عاشوا كما عشنا، وعمروا الأرض كما عَمرْنا، ثم صاروا أثرًا بعد عين، وخبرًا يقرأ في تاريخ الأمم؛ ليتسلى به من يتسَلَّى، ويعتبر به من يعتبر: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 137 – 138].
وكما قيل: فالتاريخ يعيد نفسه، والأيامُ تتوالى، والسننُ تتكَرَّر، والحوادث تتشابه. والمفلحُ من فَقِهَ سنن الله - تعالى - فاعتبر، وكرَّس حياته فيما يرضي ربه، واجتنب كل ما يسخطه. والأحمقُ من يرى السنن، ويبصر الآيات والعبر؛ فلا ينتبه ولا يعتبر؛ بل يأكلُ ويشرب وينام، وينتظر الأجل وهو بلا عمل.
وفي مثل هذه الأيام، أي: قبل رمضان بسبعة أيام، منذ ما يقارب ألف عام انتزع الصليبيون بيت المقدس من المُسْلِمِينَ، ودنَّسوه زهاء تسعين سنة، وأنشؤوا أربع إمارات صليبية في المشرق الإسلامي، ومكثوا في بلاد المسلمين مائتي سنة، كانت أوروبة خلالها ترسل الحملات في إثر الحملات، والجُيوش تردف الجُيوش؛ لإحكام القبضة على بلاد المسلمين، ولكنَّها فشِلت وعادت أدراجها من حيث أَتَتْ، بعد تضحيات جسيمة من قِبَلِ المُسْلِمين في مصر والشام.
اصطلح على تسمية هذه البعوث الإفرنجية الكاثوليكية بالحملات الصليبية؛ لأنَّ الجيوش جُيِّشت تحت راية الصليب، وبشعار تخليص قبر يسوع المقدس - حسب زعمهم - ولهذه الحملات الضَّخْمَة التي استمرَّت قرنين كاملين قصةٌ دينية عند عُبَّاد الصليب؛ إذ إنَّ قادح شرارتها راهب يدعى: "بطرس الناسك"، ومسعر حربها هو المعتلي على سُدَّةِ عرش البابوية الكاثوليكيَّة آنذاك البابا "أوربان الثاني".
كان بطرسُ النَّاسكُ مُنْقَطِعًا للرهبنة والتعبُّد في مَغارة من مغارات أوروبا، وأثناء رهبنته طرأ عليه الحجّ إلى بلد عيسى - عليه السلام - فرحل إليها عام ستة وثمانين وأربعمائة للهجرة، فلمَّا وصل بيت المقدس، ورأى سلطان المسلمين عليها غاظه ذلك، وامتلأ قلبُه حِقدًا على المسلمين، واجتمع مع بطريرك كنائس فِلَسْطِين، وظلا يبكيان وينتحبان ويتذاكران مَجْد النصارى في تلك الأرض، ثم قطع بطرسُ الناسكُ على نفسه عهدًا ليُجَنِّدَنَّ أوربة لانتزاع القدس من المسلمين[1].
وعاد إلى أوربة للوفاء بوعده، فالتقى بالبابا أوربان في رُوما، وأخبره بخبره، وكان البابا أشدَّ حماسًا من بطرس ليحقق مجدًا للنَّصارى عامَّة، وللبابويَّة الكاثوليكية على وجه الخصوص، واتَّخذ من بُطْرُس وسيلةً إعلامية لتأجيج مشاعر الأوروبيين ضد المسلمين، فسار الراهب بطرس يجوب أرجاء أوروبة راكبًا بغلته، معتنقًا صليبه، مثيرًا لحماسة الناس، داعيًا إلى حرب مقدسة ضِدَّ المسلمين[2]، وكان لرحلته تلك أبلغُ الأثر في تهيئة الناس لغزو المسلمين. فلمَّا رأى البابا أوروبان أنَّ الوقت قد حان لقطف ثمرات دعايات بطرس، وأنَّ الحماسة الدينيَّة قد ألهبت قلوب الأوروبيين عقد مجمعًا كنسيًا ضخمًا في فرنسا تقاطر عليه النصارى من جميع أنحاء أوروبا حتى امتلأت المدن والقرى والمزارع المحيطة بمكان المجمع.
وفي الجلسة العاشرة من المجمع، افتتح بطرس الخطاب بالأكاذيب والدعاوى ضد المسلمين، معدِّدًا ما زعمه شدائد يعاني منها نصارى الشرق، في بلد يسوع. فلما تهيَّأ الناس، واشتد غضبهم قام بابا أوروبا ليخطب خُطبة مليئة بالشحن ضد المسلمين كان من قوله فيها: "أيها المسيحيون: إن تلك الأرض المُقَدَّسَة بحضور شخصها المخلص فيها، وتلك المغارة المريعة المختصة بفادينا، وذلك الجبل الذي عليه تألَّم ومات من أجلنا.. كلها أضحت ميراثًا لشعب غريب.. ولم يعُدْ من معبدٍ داخل المدينة المقدسة الخصوصية، والمشرقُ الذي هو المهدُ والينبوع المقدس لإيماننا، لم يعد مشهدًا إلا لافتخارات أعمال المسلمين"[3].
وخاطب الشعوب النصرانية الأوروبية بعامة فقال: "يا شعب الفرنجة شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تُخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباءٌ مُحْزِنة، تعلن أن جنسًا لعينًا أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد بلاد المسيحيين".. إلى أن قال: "فلْيُثِرْ همتكم ضريحُ المسيح المقدس ربنا ومنقذنا، الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيرُه من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست"[4].
ثم خصَّص البابا جزءًا من خطابه للأُمَّة الفرنساوية التي ترعى هذا المجمع الهائلَ فقال لهم: "أيها الطائفة الفرنساوية العزيزة لدى الله، إن كنيسة المسيحيين قد وضعت رجاها مسندًا على شجاعتكم، فأنا الذي أعرف جيّدًا تقواكم وكفاءتكم بالشجاعة والغيرة، وقد اجتزت الجبال الألبية وحضرت لكي أنذر بكلام الله في وسط بلادكم..
يا أيها الشجعان: اذهبوا متسلحين بسيف مفاتيحي البطرسية، واكتسبوا بها لذواتكم خزائن المكافآت السماوية الأبدية، فإذا أنتم انتصرتم على أعدائكم فالملكُ الشرقي يكون لكم قسمًا وميراثًا، وأما إذا قُتلتم فلكم المجد؛ لأنكم تموتون في المكان الذي فيه مات يسوع المسيح"[5].
- تعالى - الله عن إفكهم وكذبهم علوًّا كبيرًا.
ثم قال: "إن أورشليم أرضٌ لا نظير لها في ثمارها، هي فردوسُ المباهج، إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمّسين تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجدًا لا يفنى في ملكوت السموات"[6].
فعلت أصوات الجموع الحاشدة المتحمسة قائلة: "تلك إرادةُ الله"، ثم أمر البابا الذاهبين إلى الحرب أن يضعوا علامة الصليب على جباههم أو صدورهم، وتقدم جمع من الأساقفة والأُمَراء والتجار، وخروا راكعين أمام البابا معلنين أنهم وهبوا نفوسهم وأموالهم لله، وحذا حذوهم آلاف العامة، وخرج الرهبانُ والنساك من صوامعهم ليكونوا جنود المسيح حسب زعمهم[7].
قال المؤرخ الأوربي ديورانت: "وهكذا توحَّدتْ أوروبا كما لم تتوحَّدْ في تاريخها كله.. وسرت روحُ الحماسة فيها كما لم تَسِرْ فيها من قبل في أثناء هذا الاستعداد المحموم للحرب المقدسة"[8]، وأصر النساء والأطفال على المشاركة في هذه الحملة ضد المسلمين.
وقد صور المؤرخ المسلم ابن الأثير - رحمه الله تعالى - الحماسة الدينية لدى الصليبيين لما استردَّ المُسْلِمُون منهم بيت المقدس بقيادة صلاح الدين فقال - رحمه الله -: "ثم إن الرهبان والقسس، وخلقًا كثيرًا من مشهوريهم وفرسانهم لبسوا السواد، وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم.. وذكر أنهم طافوا في بلاد الإفرنج يستنْجِدُونَ أهلها، ويحثُّونَهُم على الأخذ بثأر البيت المقدس، وصوَّروا المسيح - عليه السلام - وجعلوا صورة لرجل عربي، والعربي يضربه، وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح - عليه السلام - وقالوا لهم: "هذا المسيح يضربه محمد نبي الإسلام، وقد جرحه وقتله؛ فعظم ذلك على الفرنج فحَشَرُوا وحشدوا حتى النساء.. ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه أو يعطيهم مالاً على قدر حالهم، فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء". وقال ابن الأثير: "وحدَّثني بعض الأسرى منهم أنَّ له والدةً ليس لها ولد سواه، ولا يملكون من الدنيا غير بيت باعتْهُ وجهَّزَتْهُ بثمنه، وسيَّرته لاستنقاذ البيت المقدس؛ فأُخِذَ أسيرًا. وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حدُّه، فخرجوا على الصعب والذلول برًّا وبحرًا من كل فجٍّ عميق"[9] ا هـ.
سارت طلائع الصليبيين يتقدَّمُها بطرسُ الناسكُ، ثم أُردفت بأربعة جيوش ضخمة لا يعلم عَدَدَهَا إلا الله تعالى، وصفها بعضهم فقال: "كانت الجيوش الصليبية عبارة عن شعب كامل يسير"[10]، فلمَّا دخلوا القسطنطينية للعبور إلى الشرق فزع أهل القسطنطينية من كثرتهم حتى قالت ابنة إمبراطورها آنذاك: "يخيل لي أن أوربا اقتلعت من أصولها"[11].
وأعجزت كثرتهم أي جيش أن يقف أمامهم، وما توقَّفوا إلا في بيت المقدس، وأعملوا القتل في أهله، واستولَوْا عليه، وذلك في ضُحَى الجُمُعَةِ لِسَبْعَةِ أيام بقيت على رمضان من سنة ثنتين وتسعين وأربعمئة للهجرة[12]، واهتزَّ المسلمون لهذه الفاجعة العظيمة، وبكوْا بكاءً مرًّا، وخطب الخطباء، وَتَرَاسَلَ الأُمَراء، واجتمع العلماء؛ لكن الضعف والفرقة قد عمِلَتْ عَمَلَهَا في المسلمين فما استطاعوا عمل شيء. ورفعت الصلبان في الأرض المباركة، واستباحها همج أوروبا، ومنعوا المسلمين من إقامة شعائرهم فيها، أوِ الصلاة في المسجد الأقصى، وكان ذلك أمرًا عسيرًا على أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وكانت تلك نتيجة تضييع أوامر الله – تعالى - إذ سلَّط الله عليهم عدوّهم، ووكلهم إلى أنفسهم، ومن وكل إلى نفسه عجز، ومن وكل إلى الخلق ضيعوه، ومن توكل على الله كفاه..

الحملات الصليبية
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..
أما بعد: فاتقوا الله – تعالى - واستجْلِبُوا النصر باتباع أمره، واجتناب نهيه، وتعظيم شعائره، ونصرة إخوانكم المستضعفين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
أيها المسلمون: لقد كانت الدوافع الدينية عند قادة الحملاتِ الصليبية ومسعريها قوية جدًّا، وهي التي أججوا بها مشاعر العامَّة في مختلف أرجاء أوروبا حتى خرجوا بقضهم وقضيضهم، واصطحبوا نساءهم وأولادهم للاستيطان في الشرق الإسلامي. ولا أدل على هذه الحماسة الدينية من المقولة التي أطلقها البابا أوربان أمام ملوك أوروبا حينما قال: "إنَّ تعريض حياتي للخَطَرِ في سبيل تخليص الأماكن المقدسة، لأفضلُ عندي من حكم العالم كله"[13].
ومن أجل هذا الهدف توحَّدت أوروبا المتفرقة، وتحالف ملوكها المتخالفون؛ لأن هدف الحملة كان مقدسًا عند جميعهم.
لقد كانت الحملاتُ الصليبية التي تتباعت على الشرق الإسلامي قرنين من الزمان، وصمة عار عيّر بها المنصفون من كُتَّاب أوربة بني جنسهم ومِلَّتهم، فما عرفت الرحمةُ إلى قلوبهم سبيلاً في المدن التي استولوا عليها؛ فهذا قس من قساوستهم كان حاضرًا معهم، كتب في مذكراته ما شاهده من أفعالهم فقال: "وشاهدنا أشياء عجيبة؛ إذ قُطِعَتْ رؤوس عدد كبير من المسلمين، وقتل غيرُهم رميًا بالسهام، أو أرغموا على أن يُلْقُوا أنفسهم من فوق الأبراج، وظَلَّ بعضُهُمُ الآخر يعذبون عدة أيام، ثم أحرقوا بالنار، وكنت ترى في الشوارع أكوام الرؤوس والأيدي والأقدام، وكان الإنسان أينما سار فوق جواده يسير بين جثث الرجال والخيل"[14].
ويروي كاتب نصراني آخر ما شاهده فيقول: "إن النساء كن يقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد، وذبح السبعون ألفًا الذين بقوا في المدينة، أمَّا اليهود الذي بقُوا أحياءً فَقَدْ سِيقُوا إلى كنيسٍ لهم، وأشعلت فيهم النار وهم أحياء"[15].
وظلَّ المسلمون طيلة إحدى وتسعين سنة يعدون العدة لإخراج الصليبيين من بيت المقدس؛ فأصلحوا أنفسهم، ونشروا الصلاح بينهم، ودخل كثير منهم تحت رايات الجهاد؛ حتى حقَّق الله لهُمُ النَّصر في حِطِّين وما تلاها من معارك. فأعادوا بيت المقدس إلى حظيرة الإسلام، وما عمل صلاح الدين وجيشُه مِثْلَ الَّذِي عَمِلَ الصليبيون بالمسلمين؛ بل آثَرَ العَفْوَ عنهم، وافتدى كثيرًا منهم بماله الخاص.
وظلَّ - رحمه الله تعالى - يُجَاهِدُ الصليبيين حتَّى حرَّر بلادًا كثيرة منهم، ثم واصل المسيرة من كانوا بعده من السلاطين حتَّى تمَّ تحرير الشرق الإسلامي كله من الإمارات الصليبية، وفَشِلَتْ ثمان حملات صليبية كبرى في تحقيق هدف الأوربيين بعد مائتي سنة من الصراع الدَّامي المرير.
وما أشبه الليلة بالبارحة، والتاريخ يعيد نفسه بعدما يقارب ألف سنة، وما الحملات الإعلامية المسعورة على الإسلام والمسلمين في هذه الأيام من الإعلام الغربي النصراني واليهودي، إلا امتداد لحملة بطرس الناسك وأكاذيبه، وما المجمعات الأممية لاتهام كل المسلمين بالإرهاب والتطرُّف - ما داموا يدينون بالإسلام - إلا امتداد للمجامع التي دعا إليها البابا أوربان الثاني قبل ألف عام، والمستهدف منها هم المسلمون في عقيدتهم ودينهم وأخلاقهم.
إن علاقتنا مع أهل الكتاب لا نحتاج في معرفة حقيقتها إلى محلل سياسي، أو كاتب صحفي، أو مذيع إخباري، يتلاعبون بالأخبار، ويَطْمِسُونَ الحقائق؛ وإنما نأخذها من كتاب الله - تعالى - الذي بين الله - تعالى - فيه أنَّ أهل الكتاب لن يَرْضَوْا عنَّا حتَّى نتَّبِعَ مِلَّتهم، سواء كانت ملتهم الديانة المحرفة، أم الأيدلوجية المخترعة، أم العلمانية اللادينية، ومشروع العولمة برمته لا يخرج عن خبر هذه الآية الكريمة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، وإن نزول عيسى - عليه السلام - في آخر الزمان، وكسره للصليب، وقتله للخنزير لمن أكبر الدلائل على أنَّ الصراع الدينيَّ سيظل موجودًا إلى آخر الزمان. وما كَسْرُه لِلصليب، وقتله للخنزير إلا إلغاء لشعائر دين النصارى، ولو لم يستمروا على الاستمساك بها لما كان إلغاؤها من مُهِمَّات عيسى عليه السلام.
إن العلمانيين العرب الذين تَخَلَّوْا عن دينهم، وطالبونا باطِّراحه، وبتبديل ثقافتنا، وتغيير نصوصنا، ولازالوا يساوموننا على ديننا لم يرض عنهم عباد العجل وعباد الصليب، ولن يرضوا عنهم أبدًا؛ فلا لدينهم أبقوا، ولا نالوا رضى أعدائهم، وهم في خسران دائم!! وواجب على كل مسلم في مثل هذه الفتن أن يزيد استمساكُه بدينه، وأن يكثر من عبادة ربه، وأن يسأل الله الثبات على الحق إلى الممات؛ فإن الزائغين عن الطريق يكثرون في مثل تلك الفتن، والمتخلّون عن دينهم تزداد أعدادهم كلما عظم البلاء، واشتدت الفتن، وإذا خسر المرء دينه فَقَدْ خسر آخرته، عوذًا بالله من ذلك.

غنائم الغرب من الحروب الصليبية
لا تكتفي الأقليَّة العَلمانية في البلاد الإسلامية بالمطالبة بتَحْيِيد الإسلام، والفصل بين أحكامِه وبين نظام الدولة، كما هو الأمر في البلاد الغربية، وإنَّما تُمْعِن في الطعن الصَّريح تارة والخفي تارة أخرى في مَرجعيته وتَجرُّده من المحاسن، ولا تنسب إليه أيَّ إيجابية، لا في الأخلاق، ولا في التشريع، ولا في النظرة إلى الكون والإنسان والحياة، ويُجَنُّ جنونها، وتتوتَّر أعصاب دعاتها حين يربط دين الله بالعلم، ويقول القائلون: إنَّ الإسلام يقوم في كلِّ مجالاته على المعرفة العميقة والعلم الرَّاسخ، وقد أقام بهما حضارة امتدَّت في الزمان، فدامت ثلاثةَ عَشَرَ قرنًا، واتَّسعت في المكان شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وغاصت عمقًا، فشَمِلَت حياةَ الفرد والمجتمع والأمم في العقائد، والأخلاق، والسُّلوك على أصعدة التجارة، والسياسة، والسلم، والحرب، والتربية، والاجتماع، والاقتصاد، والأدب، والفنِّ.

"ما للإسلام والعلم والحضارة؟ إنَّه فقط عَلاقة رُوحية بين الفرد ومُعتقداته الغيبية، بل هو في الحقيقة سبب تأخُّر المسلمين، وما داموا يقحمونه في شؤون السياسة والتنمية والحياة الشخصيَّة، فلن يزيدوا إلاَّ تقهقُرًا"؛ هذه قناعة العَلمانيِّين في بلادنا، لا يكادون يتزحزحون عنها قِيدَ أُنْمُلَة، ويرفضون أنْ نُناقشهم فيها، فلننظرْ في صفحات التاريخ، لعلَّ بعضَهم يتنازل عن كبريائه، ويُذعن للحقِّ، فيعود إلى صفِّ أمَّته التي يَدَّعي الانتصار لها.

نعرف ماذا جَنَت حروب الفرنجة - التي سمَّاها النصارى "الحروب الصَّليبية" - على المسلمين، لكن ماذا جنى منها الغربيُّون بعد تسع حملات متتالية تزعَّمها ملوكهم وقادةُ كنائسهم، وكان تَعْداد الجنود فيها بمئات الألوف؟

هذا ما لا يُكلِّف العَلمانيُّون أنفسَهم عناءَ البحث فيه؛ لأنَّهم مثل كلِّ المقلدين للمتغلِّب والمهزومين روحيًّا، يرتمون في أحضان الأفكار التغريبية الميِّتة والمُميتة، مُنبهرين بها، واقفين عند سطحها، لا يغوصون في أعماقها، ولا يبحثون عن تاريخ نشأتِها؛ لإدراك حقائقها، ومعرفة دقائق مسيرتها، وهذا الجهلُ قاد النخبة المنسلخة من مقوِّمات المجتمع إلى الدُّخول في حرب ضدَّ الإسلام من منطلق كَنَسِي عَفَّى عليه الزمان، ولعلَّ هذا الموقف العدائي الذي لم يتَّعظ بدروس التاريخ يُحتِّم علينا أنْ نرجع ببعض التحليل إلى الحروب الصَّليبية، باعتبار ذلك صفحةً منسيَّة من الصراع الفكري الثقافي العقدي، الذي انتصر فيه الإسلام، وانتصرت فيه الروح العلمية.

هل كانت الحروبُ الصليبية حروبًا استعمارية توسُّعية فحسب، أو هي مُواجهة بين ديانتين مُتجاورتين جغرافيًّا، كما يردِّد بعض الباحثين؟
هذا تفسير في غاية السطحية، بل في منتهى الزيف لمن تتبَّع أبعاد تلك الحروب، فمن خلالها كانت الكنيسة تريد القضاءَ على التحرُّر الفكري بوقف زحف المسلمين الذي من شأنه زَعْزَعَة العقائد النصرانية المصادمة لحقائق العلم والمجافية له، كما كانت تُحرِّض الملوك والإقطاعيِّين على حرب الإسلام؛ لتُضعف قوَّتهم وسيطرتهم؛ لتتعاظم قوَّتها هي، إضافةً إلى شغل الرأي العام عن خلافاتِها الداخلية المحتدمة.

إنَّ الحروب الصليبية كانت حروبًا ضد الأفكار التحرُّرية، ومن أجل تكريس الاستعباد الفكري للنَّصارى، كانت دفاعًا عن الجهل ضِدَّ العلم، الذي كانت أوروبا تخشاه وتبغضه؛ لأنَّها رأت مركزها المبني على الخرافة والاستبداد باسم الدين يتهاوى أمام الإشعاع العلمي المنبعث من بغداد وقرطبة والقاهرة وغيرها من الحواضر الإسلامية، والكنيسة كانت تعلم أنَّ جبروتها لن يصمد أمام المنهج العلمي، الذي يتبنَّاه المسلمون، والذي ما كان ليدع وزنًا لشعارات: "اعتقد ثم استدلَّ"، أو "أغمض عينيك واتَّبعني"... إلخ، وبدل أن تَحتضن النور الوضيء راحت تُحاول وقف زحفه؛ لتحافظ على امتيازاتِها المادية والأدبية في ظلِّ الظلام البهيم.

ولكنَّ المتتبع لحركة الأفكار وأحداث التاريخ يتأكَّد أن فترة الحروب الصليبية كانت إيذانًا بانحطاط الدين النصراني المحرَّف حيث أدَّى الاحتكاك بالمسلمين عقودًا عدَّة إلى استفاقة حقيقية في الصفِّ النصراني، فشجَّع العلماء والباحثين والمفكرين على الثَّورة على الكنيسة المتسلِّطة والانعتاق من قبضتها الحديدية، وهذا حَدَثٌ ضخم قلب كثيرًا من الموازين والحقائق والمسلَّمات والمناهج في أوروبا، وعرف بالمعركة بين العلم والكنيسة، وانتهى بعد تطوُّرات وسجال ومعارك طاحنة إلى انتصار العلم، عندما أثبت زَيْفَ الكتب المقدَّسة التي فرضتها الكنيسة على المجتمع، واعتبار تلك الحِقْبة زمن انطلاق الثورة على الكنيسة ليس رأيًا ذاتيًّا، فقد اعترف بذلك مؤرخون وعلماء كثيرون، وحسبنا شهادة مفكِّر وأديب نصراني مُبغض للإسلام هو "شاطوبريان".

إن النصارى الذين غَزَوْا بلادًا إسلامية، ومكثوا فيها زمنًا طويلاً - لمسوا مدى احتفاء المسلمين بالعلم، واحترامهم للعقل، ومدى تمسُّكهم بالمنهج التجريبي إلى جانب ما كانوا عليه من طيب الأخلاق، وحسن المعاملة، وعلموا أنَّ كل هذا يأمر به الإسلام، في حين تشجِّع الكنيسة الخرافة، وتؤجِّج الأحقادَ، وتعمل على تكاثُر الخطايا والخطَّائين؛ ليزدهر بيعُ صكوك الغفران، فانزاحت حجب التضليل عن أبصار المنصفين، ورجعوا إلى أوروبا غانمين للمنهج العلمي والتحرُّر الفكري، ولعله من المهم التذكير بكلِّ اعتزاز وجُرأة أنَّ حركة تحرير المرأة الأوروبية انطلقت بعد شرارة الحروب الصليبية في اتِّجاه تحسين مركز وظروف كائنٍ كان يُعَدُّ سببَ البلايا ورَمْزَ الشرِّ في نظر النصرانية المحرَّفة، فالمرأة الغربية مَدينة للإسلام في رفع مستواها وتكريمها، خلافًا للأفكار المعلَّبة السائدة، حتَّى عند بني جِلْدتنا من المفتونين بالغرب على غير بصيرة.

هكذا إذًا انهزم الأوروبيُّون عسكريًّا، ولكنَّهم غنموا آلياتِ الحياة الفكرية، وأحسنوا العمل، فبلغوا ما بلغه المسلمون من قبل في عِمارة الأرض، وزادوا عليه، كيف لا، وقد أخذوا من فلسفة الإسلام أهمَّ مسألتين أحدثتا انقلابًا معرفيًّا واجتماعيًّا في أوروبا، هما:
♦️ القضاء على فكرة الحكم الإلهي التي كان يستند إليها ملوكُهم، الذين لم يكن للشعوب دخلٌ في تعيينهم أو محاسبتهم، وتبعًا لذلك - أو قبله - القضاء على سطوة الكنيسة وتحكُّمها في السياسة والمال والأفكار.
♦️ التحرُّر من فكرة الخوف من الطبيعة التي درجوا عليها بناءً على تعاليم الكهنوت، وذلك أفسح لهم مجالَ معرفةِ الكون وأسراره، والسنن التي تحكمه، ومِنْ ثَمَّ استخراج خيراته على اختلافها.

بهذه الغنائم دخل الغرب التاريخَ حين أحسن استعمالها، فقد تحرَّر من الملك العَضوض من جهة، وخاض غمار استكشاف الكون من جهة ثانية، فانعتق من الاستبداد السياسي والكهنوتي ومدَّ يد البحث العلمي إلى أعماق البحار، وسطح الأرض، وجو الفضاء، وتمكَّن الإنسان من الإبداع في جميع المجالات، وهو لا يخشى أن يحرق حيًّا بتهمة الهرطقة، كما حدث لغير واحد من عباقرة أوروبا في ظل الجبروت الكنسي.

هذه حقائق يَصْدَع بها مؤرِّخون غربيُّون منصفون، لكنَّ النخبة العلمانية العربية تَهْرِفُ بما لا تعرف! وباسم العلم والحَدَاثة والتقدُّم! ولو أنصفت لاختصرت الطريق، وبدلَ أن تأخذ من التلميذ تَعْمِد مُباشرة إلى الأستاذ، لكن هذه مشكلتها: إنَّها لا تعترف بأيِّ فضل للإسلام؛ لأنَّه الطود الشامخ، والعَقَبَة الكَأْدَاء أمام حركة التَّغريب والانسلاخ من مقوِّمات الأصالة، وقد أجَّجت حيويةُ الإسلام أحقادَ الياسوعيِّين الجُدُد، فأعمَتْهم عن إبصار أيٍّ من مَحاسنه، ولو اعترف بها غير المسلمين أنفسهم، وما زلنا نذكر أنَّ شخصيةً بارزة تُمثِّل العرب في أكبر عاصمة أوروبية كان موقفها من قضية الحجاب المشهورة، التي اشتعل أُوَارُها في منتصف الثمانينيَّات من القرن العشرين بفرنسا - أخزى من موقف الفرنسيِّين أنفسهم؛ إذ وصف ذلك المسؤول الحجاب بأبشعِ الأوصاف، واتَّهم من يَرتدينه بالتخلُّف والظلامية والطائفية، وهي مصطلحات تعلَّمها من قاموس النظام العلماني الاستبدادي الجاثم على بلده الأصلي.

غيرَ أنَّ الإسلاميين يتحمَّلون جزءًا كبيرًا من مسؤولية انطماس معالم العقليَّة الإسلامية؛ إذ كان ينبغي المبادرة إلى تكثيف العمل؛ من أجل تجليتها نظريًّا وعمليًّا؛ لإقامة الحُجَّة على خصوم الإسلام، وبيان أنَّ الحرية والروح العلمية والذهنية المبدعة إنَّما هي بضاعتنا أساسًا، ولا يَكفي التغنِّي بالأمجاد، بل يَجب المنازلة في ميدان البَذْل والعطاء العلمي؛ لإسعاد البشرية بَدءًا بالأمة الإسلامية المقهورة، وتلك خير إجابة نُعطيها للغرب المتنكِّر، وللنخبة العاقَّة التي "تأكل غلَّتنا وتسبُّ مِلَّتنا" كما يقول المثل

أما بعد : قولك أنه "مجرد رأي خالفه جمهرة العلماء"، فيه نظر، بالصحيح عكسه، وأخاطبك من باب تخصصي "دكتوراه في العقيدة ومقارنة الأديان"، ولا أعلم إلا القلة ممن حكى ذا المصطلح، وجلهم من المعاصرين، وهو خلاف ما درجت عليه المدارس الكلامية والأثرية والصوفية، أما قولك "كما أفهمه"، فلم أبغي البحث في نيتك أو مفهومك بل الكلام حول المصطلح المركب، ولك أن تراعي ما أوردت في تعقيبك" وللإسلام..فلسفة أي رؤية..مستقاة من الوحي"، الإسلام وحي له رؤية مستقاة من وحي..أي منه إليه؟؟ الأصح للمسلم رؤية مستقاة من الإسلام"الوحي"،ثم سمها-أنت- فلسفة، وللإفادة، عند أهل التحقيق من كبار الفلاسفة والمتكلمين، أن الفلسفة لا تنطلق من الوحي، قد تصل إليه لكن ليس من مصدارها في الإستدلال، وذا مقابل علم الكلام الذي نشأ للدفاع عن العقيدة الإسلامية، فهو ينطلق من الوحي"الإسلام"ثم يبحث عن الأدلة البرهانية.
أما عن من كفر الفلاسفة فليست مدرسة واحدة، بل مدارس، وانظر"تهافت الفلاسفة" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وكذا"المنطوق" للسيوطي،و"الرد على المنطقيين"لابن تيمية، وستجد أن من عارض هم الجمهور، بل علم الكلام معركته كان من دواعبها مجابهة شبه الفلاسفة، والفلسفة جمهور من استشرت فيهم الشيعة وخاصة الإسماعيلية.
والسلام عليكم، وأرجو أن يتسع صدركم لهذا.
جواب
هذا رأي تبنّته مدرسة إسلامية معروفة وخالفتها جمهرة العلماء والمدارس ، وللإسلام - كما أفهمه - فلسفة أي رِؤية متميّزة عن الله والانسان والكون والحياة، مستقاة من الوحي ، أمّا من كفّر كل من قيل عنه فيلسوف فهم أتباع المدرسة المذكورة فقط كما هو معروف ،فالأمر فيه سعةإن شاء الله ، ورأيي إذن ليس في حاجة إلى تصحيح وإنما إلى مناقشة.
تعليق
السلام عليك؛ أما بعد: مقال جيد في الطرح، غير أني أبغي التنويه على قولك:"كيف لا، وقد أخذوا من فلسفة الإسلام "، الأصح فلسفة المسلمين، وليس في الإسلام"الوحي" فلسفة، ولا تبنى منه، ومعذرة مني أن تقول "قصدت" فالمصطلح محكم، ولم يعلم أحد من المسلمين قيل عنه فيلسوف إلا وكفر من طائفة من العلماء، ومن الأخطاء العقدية الشائعة: فكر إسلامي، تصور إسلامي، روح الإسلام..ولأن المقام لا يسع بسط المقال أحيلك إلى المناهي اللفظية للعلامة بكر أبو زيد.

صفحات مزرية من تاريخ اليهود
"لا يوجد شعب فلسطيني ... وكأننا نحن الذين جئنا لإخراجه من دياره والاستيلاء على بلده . فهم (الفلسطينيون) لا وجود لهم.."؛ رئيسة وزراء الكيان الصهيوني السابقة جولدا مائير في تصريح لصحيفة الصنداي تايمز اللندنية بتاريخ 15/5/1969.
"كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار … ومن البدء حتى النهاية لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وأشور وفينيقيا، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم" . المؤرخ هـ.ج ولز في كتابه "موجز التاريخ"
تقديم:
تطور الجدل وتعددت مظاهر الصراع التاريخي والعقائدي بين المسلمين واليهود حول أحقية كل من الطرفين في امتلاك البقعة المقدسة التي يجثم عليها المسجد الأقصى المبارك منذ حوالي أربعة آلاف عام حيث بناه سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد بنائه للمسجد الحرام في مكة المكرمة بأربعين سنة.

في إطار هذا الجدل، يثير اليهود الشكوك حول المسجد الأقصى المبارك وما حوله، وأنه بني فوق أرض يهودية وعلى أنقاض الهيكل المقدس الذي كان يشكل رمزاً للهوية اليهودية ومعلماً دينياً ووطنياً لهم في زمن من العصور الغابرة . وقد جند اليهود ومن أجل تأكيد هذه الشكوك، الكثير من الطاقات والمقدرات والإمكانات البشرية والمادية، لتصبح بعدئذٍ حقائق دينية أكيدة لدى جمهور كبير من اليهود الذين صبغت عقولهم بعنصرية دينية مارقة، وجبلت أذهانهم على حب الانتقام من الآخر، واستغلال كل فرصة وامتطاء أية وسيلة مهما كانت من أجل الوصول إلى الهدف المنشود وهو تدمير الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، مستمدين عزيمتهم وإصرارهم من وحي عبارات تلمودية وتوراتية صاغها كبار حاخاماتهم وزعاماتهم الدينية، وغيروا وبدلوا فيها عبر كل عصر، حتى قيل أن التوراة دخلها أكثر من ثلاثمائة تحريف.

تم صياغة الفكر اليهودي المشوه في صحائفهم المزورة إلى حقائق مادية على أرض الواقع، تتمثل بمجموعات كبيرة من الشبان العنصريين الذين غرسوا وتربوا وترعرعوا على فكرة واحدة، وهي "بناء الهيكل لخلاص (إسرائيل)"، فكان هؤلاء الشبان هم الحصان الذي امتطى عليه كبار الحاخامات من أجل تغيير معالم المنطقة المقدسة تمهيداً للحدث الكبير، سواء كان ذلك بوساطة الحفر لتقويض أركان المسجد الأقصى، أو بالاعتداء الوحشي والمتكرر على المصلين المسلمين الذين يؤكدون على قدسية وإسلامية هذا المكان خمس مرات في اليوم الواحد.

وعلى الطرف الآخر، يقف المسلمون من أهل القدس وفلسطين، ينظرون ويتابعون بعين الريبة والخوف كل ما يجرى وهم يقدمون الروح والدم من أجل الإبقاء على المسجد الأقصى رمزاً دينياً ربط - وما زال- بين المسجــد الحـرام والسمـاء، وليس بمقدورهــم إلا الهتـــاف بالحنجـرة ( أقصانا لا هيكلهم.. أقصانا لا هيكلهم ).

فلسطين أرض عربية:
يرجح المؤرخون أن أول من سكن فلسطين هم الكنعانيون، وهي القبائل العربية السامية التي نزحت من الجزيرة العربية (الساحل الغربي للخليج العربي)، وتمركزت في فلسطين، فدعيت هذه الأرض باسم (أرض كنعان)، ليكون بذلك أول اسم تحمله فلسطين . وبقيت للكنعانيين السيادة ما يقرب من ألف وخمسمائة سنة، أي من 2500 ق.م إلى نحو 1000 ق.م، حين تمكن اليهود من إعلان مملكتهم.

ولعل فلسطين أقدم بقاع الأرض التي عرفت التوحيد، عندما هاجر إليها سيدنا إبراهيم (عليه السلام ) قادما من العراق في نحو عام 1805 ق.م، ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط وغيرهم ليعمل على نشر دعوته، وهي الدعوة الحنفية السمحة، كما جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين} (آل عمران: 67).

ويذهب المؤرخون إلى أن اليهود كانوا أدنى حضارة ورقياً من الكنعانيين وأنهم اقتبسوا من هؤلاء الكثير من حضارتهم وثقافتهم وآدابهم وطقوسهم، وأن ما شيد في عهد اليهود من قصور وهياكل إنما تم بمساعدة الفينيقيين.

ويبقى التأكيد، على أن اليهود الحاليين ليسوا عنصراً متجانساً، وبالتالي فإن الحنين الصهيوني إلى فلسطين وحق اليهود في العودة إلى صهيون (القدس) - كما سيظهر معنا لاحقاً- إنما هو خرافة ووهم، فضلاً عن أن عرب فلسطين هم السكان الشرعيين للبلاد منذ أقدم الأزمان، قبل ظهور اليهود فيها وبعد رحيلهم عنها بإذن الله.

القدس التسمية والتاريخ:
مع بداية تبلور معالم الحركة الصهيونية، قام اليهود باختلاس أسماء القدس العربية القديمة وصياغتها للتاريخ وترويجها على أنها أسماء عبرية خالصة، والهدف من وراء ذلك تزوير حقائق تاريخية أكيدة لصالح الفكرة الصهيونية من أجل غرس مفهوم يهودية القدس في الذهنية العالمية بشكل عام والذهنية العربية بشكل خاص، وقد نجحوا إلى حد ما، حيث تجنب الكثير من المؤرخين والمفكرين ورجال السياسة استخدام أسماء القدس القديمة معتقدين أنها أسماء يهودية تقتضي الضرورة الوطنية تجنبها.. ومن أسماء المدينة المقدسة:

يبوس: وهو الاسم الذي أطلقه على القدس بُناتها الأوائل وهم العرب اليبوسيين، من بطون الكنعانيين، وكان ذلك نحو (5000) ق.م .

أوروشالم: نسبة إلى الإله "شالم"، أي إله السلام لدى الكنعانيين.

أورشليم وأورسالم: ذكرت في لوحات تل العمارنة الأثرية والتي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهذه الفترة تسبق العبريين، وتسبق عهد الملك سليمان بحوالي خمسمائة عام .

أورسليمو: ذكرت في النقوش الأشورية الأثرية التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد.

هيروسوليما أو سوليما: ذكرت في النقوش اليونانية من عهد الاسكندر، أي في القرن الرابع قبل الميلاد.

يروشولايام ومن ثم تحريفها إلى أورشليم: هي التسمية العبرية للقدس وأصل المعنى بالسامية "مدينة السلام".

إيليا كابيتولينا: وهو الاسم الذي عرفت به القدس في العهد الروماني حيث أطلقه عليها الإمبراطور إيليوس هدريان الذي منع اليهود من دخولها نهائياً في عهده في القرن الثاني للميلاد.

قديتس: وهو الاسم المحرف في اليونانية عن النطق الآرامي "قديشتا".

كما وهناك أسماء أخرى للقدس عربية وعبرية ولاتينية وإسلامية، آخرها القدس أو بيت المقدس وهو الاسم الذي عرفت به هذه المدينة في صدر الدعوة الإسلامية وبعد الفتح الإسلامي لها على يد الخليفة عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) عام 15هـ/ 636م.

المسجد الأقصى قبل الإسلام:
المسجد الأقصى هو الاسم الإسلامي للمعبد العتيق في أرض فلسطين، فهو مسجد قديم قدم عهود الأنبياء من عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام، إلى محمد(صلى الله عليه وسلم) . إذ هو ثاني مسجد بناه سيدنا إبراهيم(عليه السلام) بعد المسجد الحرام، ففي حديث أبي ذر الغفاري(رضي الله عنه) قال: "قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام . قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة".

والمسجد الأقصى عند العلماء والمؤرخين أشمل من مجرد البناء الموجود الآن بهذا الاسم، إذ كل ما هو داخل السور الكبير ذي الأبواب، يعتبر مسجداً بالمعنى الشرعي، وفي إطاره يدخل مسجد قبة الصخرة المشرفة ذو القبة الذهبية المنصوبة على المبنى المثمن . وللصخرة تاريخ عريق، ذلك أنها أول من صلى عندها سيدنا آدم(عليه السلام)، وعندها اتخذ سيدنا إبراهيم(عليه السلام) معبداً ومذبحاً، وعليها أقام سيدنا يعقوب(عليه السلام) مسجده بعد أن رأى عموداً من النور فوقها، حيث جدد بناء معبد سيدنا إبراهيم(عليه السلام) على مكان الصخرة نفسها بعد أن هرم، وهي التي نصب يوشع بن نون(عليه السلام) عندها قبة الزمان، أو خيمة الاجتماع التي صنعها موسى(عليه السلام) في التيه ليتلقى فيها الوحي، وهي التي بنى داود(عليه السلام) عندها محرابه، وشيد سليمان عندها المعبد العظيم المنسوب إليه، والذي أقامه لعبادة الله وتوحيده، تلك الصخرة التي عرج من فوقها النبي محمد(صلى الله عليه وسلم) إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج . وهذا وحده فقط، يدلل على أن القدس كانت بيتاً للأنبياء ومأوى لهم في كل الأزمان والعصور، وليس من قبيل المنطق، أن تنتقل وراثة من أيدي الأنبياء إلى أيدي قتلتهم من اليهود.

يهمنا هنا، دراسة المكان المقدس في عهدي سيدنا داود وابنه سليمان (عليهما السلام)، وما بعدهما. فقد فتح داوود مدينة القدس عام (977) ق.م، فنقل إليها التابوت الذي كان يحوي بقية آثار موسى وهارون عليهما السلام، وأعد داود(عليه السلام) بالمدينة المقدسة مساحة منبسطة فسيحة ليشيد عليها المعبد المقدس (المسجد الأقصى)، وجهز المواد اللازمة للبناء، ولكنه أحس أن أجله لم يمهله حتى يكمل البناء، فعهد بذلك إلى ابنه سليمان(عليه السلام).

أما سليمان(عليه السلام) الذي ولد في القدس ونشأ بها، فقد تولى العرش بعد أبيه (963-923) ق.م، ثم شرع ببناء المعبد المقدس على هيئة ضخمة فخمة تليق بمكانة نبي أوتي ما لم يؤت أحد من العالمين، ووهب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.

وتفيد إحدى الروايات التاريخية أن بناء هذا المسجد (المعبد) استغرق سبع سنين، عمل فيه ثلاثون ألفاً من العمال الذين كانوا ينقلون خشب الأرز من لبنان عبر البحر إلى شاطئ يافي (يافا)، وتم بمساعدة الملك الفينيقي (حيرام) ملك صور، وبهذا فقد كان المهندسون والبناءون المهرة من صور، وكان الإشراف على البناء فينيقياً، وجل العمال الثلاثون ألفاً كان من الكنعانيين، وداخل المسجد كان التصميم وكانت النقوش كنعانية . ولفخامة الهيئة التي بنى عليها سليمان المسجد الأقصى هذا – المعروف في تاريخ بني إسرائيل بالهيكل– نسب هذا المعبد إليه، كما قال ابن تيمية (رحمه الله): "المسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم(عليه السلام)، لكن سليمان(عليه السلام) بناه بناءً عظيماً".

وكما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص(رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): " إن سليمان لما بنى بيت المقدس، سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة. سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه الله إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه الله إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها". وهذا الحديث الشريف – الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وغيرهم– لا يدع مجالاً للشك بأن هذا المكان هو مسجد أقيم لعبادة الله وحده واسمه المسجد الأقصى، والمؤمنون بالله وبشريعة الوحدانية والديانة الخاتمة المحفوظة غير المحرفة أو المزورة هم الأحق به وبملكيته.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى