مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* علم السيميا : شارل سندرس - شارل موريس - جوليا كريستيفا وجاك لـَكان

اذهب الى الأسفل

* علم السيميا : شارل سندرس - شارل موريس - جوليا كريستيفا وجاك لـَكان Empty * علم السيميا : شارل سندرس - شارل موريس - جوليا كريستيفا وجاك لـَكان

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء فبراير 08, 2011 12:25 pm

علم السيميا
اعداد : طارق فتحي
مقدمة في علم السيميا
يرتبط اتجاه السيمياء التداولية (sémiotique pragmatique) بالتقليد العلمي والفلسفي الذي أرساه شارل سندرس بيرس وبلوره شارل موريس فيما بعد؛ كما يتعالق هذا الاتجاه أيضا مع تصورات المناطقة وفلاسفة اللغة، روسل وكارناب وفريج وفيتغينشتاين وغيرهم[1].
وتتميز السيمياء التداولية بتصورها الشمولي والدينامي للعلامة، إذ تعتبرها كيانا ثلاثيا تتفاعل داخله العناصر التركيبية والدلالية والتداولية، في إطار سيرورة دائمة تسمى “السيميوزيس” (Semiosis).

1- سيمياء شارل سندرس بيرس
تتخذ السيمياء عند بيرس طابعا شموليا، إذ لا نجد شيئا يخرج عن موضوعها مهما كان هذا الشيء. يقول بيرس: “لم يكن بمقدوري أبدا دراسة أي شيء كيفما كان (رياضيات، أخلاق، ميتافيزيقا، اقتصاد، تاريخ، علوم…)، إلا دراسة سيميائية“[2]. وبذلك فالسيمياء البيرسية تقدم نفسها باعتبارها منطقا عاما يستوعب كل الظواهر ويسعى إلى صياغة قواعد مجردة وقيم شاملة للتمييز بين الصحيح والخاطئ. “إن المنطق بمعناه العام- يقول بيرس- هو علم الفكر الذي تجسده العلامات، إنه السيمياء العامة“[3].
وتستند هذه السيمياء البيرسية إلى سياق فلسفي تفسيري مستوحى من كانط وهيغل يسمى “نظرية المقولات” (théorie des cathégories)[4]، وهي عبارة عن ظاهراتية خاصة، ذات مفاهيم ومصطلحات مخصوصة ومبتكرة، “تدرس العناصر البارزة (phanérons) على مستوى الفكر لكي تميز طبقاتها وتصنفها ضمن مقولات عامة“[5].
وفي إطار هذه الظاهراتية، مايز بيرس بين ثلاث مقولات أساس تعبر عن ثلاثة أنماط من كينونة العناصر البارزة، وهي على التوالي: “الأولانية” (firstness)، و”الثانيانية” (secondness)، و”الثالثانية” (Thirdness)[6].
فالأولانية هي “كينونة الإمكان الكيفي الموجَب” (qualitative positive l’Etre de la possibilité)، أي كينونة شيء أولي وسابق لأي تركيب أو توليف. وهو شيء غير موجود لكنه يحمل في ذاته قدرات وإمكانيات تجعله يوجد أولا يوجد، يتحين أولا يتحين[7]. إنه الشيء الذي يملك كينونته في ذاته، بحيث لا يوجد في الوعي ولا يخضع لأي قانون[8]. إن الأولانية إذن هي عالم الممكنات (les possibles) والكيفيات (qualités) المجرَّدة [9].
ولتيسير فهم “الأولانية“، نعطي مثالا بـ “الخسوف” (eclipse)، قبل أن يقع أول مرة، وقبل أن يعرفه أحد أو يراه أو يتوقعه؛ فقد كان عبارة عن إمكان كيفي لا نعرف عنه شيئا إلا بعد أن يحدث.
أما الثانيانية، فهي مقولة الوجود، أي وجود الأولانية وتَحَقـُّقها في الزمان وفي المكان؛ ولذلك فهي عالم الموضوعات والوقائع والموجودات (وقوع الخسوف مثلا) [10].
وأما الثالثانية، فهي مقولة الوعي الذي يتدخل ليربط بين الشيء كإمكان كيفي مجرد وبين تحققه الفعلي في عالم الموجودات والموضوعات[11]. إنها الفكر أو القانون الذي يربط بين الأولانية والثانيانية وفق منطق ضروري متجه نحو الوقائع المستقبلية[12]. (رؤية الخسوف ينتج عنها إدراك العلاقة بين كُمونه وتجلـِّيه، مما يُمَكـٍّن من التنبؤ به).
وقد اعتمد بيرس هذا التصنيف المقولاتي في تصور العلامة السيميائية، فاعتبرها كيانا ثلاثي الأبعاد: فهي عبارة عن “شيء ما يُعَوِّض- بالنسبة لشخص معين- شيئا آخر وفق علاقة أو صفة ما“[13]. وبعبارة أخرى، العلامة هي “كل شيء يحدد شيئا ثانيا للإحالة إلى شيء ثالث يحيل عليه الشيء الأول ذاته وبنفس الطريقة“[14]: فالشيء الأول هو “المُمَثِّلة” (representamen)، والشيء الثاني هو “الموضوعة” (objet)، والشيء الثالث هو “المؤوِّلَة” (interprétant)[15].
فالعلامة عبارة عن “ممثلة” مرتبطة بـ “موضوعتها” من جهة، وبـ “مؤوِّلتها” من جهة أخرى، وذلك بطريقة تجعل علاقة هذه الموضوعة بتلك المؤولة مشابهة لعلاقة الممثلة مع الموضوعة[16]. أي أن الممثلة تحدد الموضوعة وتنشئ معها علاقة معينة، غير أنها أيضا وفي نفس الوقت تحدد المؤولة وتضع بينها وبين الموضوعة علاقة مطابقة (تقريبا) للعلاقة التي بينها هي وبين هذه الموضوعة نفسها.
وقد يبدو الأمر هنا أشبه بالدوامة، إذ ما جدوى أن تكون هناك علاقة ثانية قائمة بين المؤولة والموضوعة وهي تشبه العلاقة الأولى القائمة بين الممثلة والموضوعة؟ غير أن الأمر ليس كذلك لأن طبيعة المؤولة غير طبيعة الممثلة، تماما كما أن الأولانية غير الثالثانية.
فالممثلة هي حامل العلامة (véhicule du signe) وركيزتـُها (fondement) في نفس الوقت: هي الحامل لأنها تقدم نفسها في الغالب داخل خليط من “الممثلات” الأخرى التي تنتمي إلى علامات أخرى في سياقات مختلفة، فنركز عليها ونعتبرها حاملا للعلامة التي نريد دراستها؛ وهي “الركيزة ” لأننا نعتبرها دالة على موضوعة نصل إليها بموجب اعتمادها كممثلة[17].
أما الموضوعة فهي كل ما تحيل عليه الممثلة، سواء أكان قابلا للإدراك أم قابلا للتخيل أم غير قابل حتى للتخييل (الإحساسات المبهمة مثلا)[18]. فالموضوعة إذن هي ما تمثله الممثلة وما تعنيه المؤولة([19]).
وأما المؤولة فهي تتوسط بين الممثلة والموضوعة، وتجعل الأولى تحيل على الثانية([20]). فالعلاقة بينهما (أي بين الممثلة والموضوعة) مُمْكِنة إذا نظرنا إليها من زاوية الممثلة، وموجودة إذا نظرنا إليها من زاوية الموضوعة، ومدرَكة إذا نظرنا إليها من زاوية المؤولة[21].
ولا ينبغي هنا أن نخلط بين “المؤولة” (interprètant) و”المؤوِّل“، أي الشخص الشارح (interprète): فالمؤولة ليست هي من يؤوِّل، وإنما هي علاقة تضيئُها الممثلة في ذهن الشخص الشارح، أي في ذهن المُؤَوِّل[22].
ولم يقف بيرس عند حدود رسم هذه المكونات الثلاثة للعلامة، بل ميز في كل منها مستويات وأبعادا: فقد رأينا كيف أن الممثلة تتضمن مستويين هما “حامل العلامة” و”العماد“. أما الموضوعة فهي بدورها تنقسم إلى موضوعتين: موضوعة مباشرة (immédiat)، وهي ما تحيل إليه العلامة في ذاتها؛ وموضوعة غير مباشرة (médiat) أو دينامية (dynamique)، وهي الموضوعة الواقعية التي لا تشير إليها العلامة إلا بالتلميح وتترك للمؤول (أي الشخص الشارح) مهمة تحديدها[23]. أما المؤولة فهي بدورها تنقسم إلى ثلاثة أنواع: مؤولة مباشرة تربط فقط بين الممثلة والموضوعة المباشرة، ومؤولة غير مباشرة تأخذ بعين الاعتبار الموضوعة غير المباشرة (الدينامية)، ثم مؤولة نهائية (final) تتميز بالقدرة الكاملة على التنقل بين ما هو مباشر وما هو غير مباشر[24].
وإذا عدنا إلى العلاقة الثالوثية (triadique) الأصلية- بغض النظر عن تنوع الموضوعات والمؤولات- نجد كل عنصر من عناصر العلامة (الممثلة- الموضوعة- المؤولة) يعتبر في حد ذاته علامة، وذلك بحسب المنظور الذي يستعمله المؤول أو مستعمل العلامة: فالموضوعة قد تعتبر من منظور آخر “ممثلة” فتكون “موضوعتها” هي العلاقة بين الطرفين الآخرين، وتكون “مؤولتها” هي الرابط بينها وبين هذه العلاقة[25].
فإذا انطلقنا مثلا من العلامة باعتبارها علاقة ثالوثية مجردة بين العناصر (ك) و(د) و(ع)، سيكون في إمكاننا أن نتبنى منظورا يعتبر (ك) هي الممثلة، أو نعتمد منظورا آخر يعتبر أن الممثلة هي (د) أو (ع). وسبب هذه الإمكانات هو أن بيرس لا يشترط أن تكون العلامة شيئا ماديا محسوسا، فالممثلة قد تكون أيضا فكرة أو إحساسا أو غير ذلك.
لا ينظر بيرس إذن إلى العلامة في ثباتها وسكونيتها، وإنما في حركية عناصرها وعلائقها المولدة للدلالة باستمرار. بل إن موضوع سيمياء بيرس في واقع الأمر ليس هو العلامة وإنما اشتغالها وحـركيتها، لذلك يقدم عليها مفهوم/ مصطلح “السيميوزيس” (semiosis)، ويعني به “السيرورة التي تعمل بها العلامة باعتبارها علامة“[26]. كما يجعل السيمياء هي “نظرية الطبيعة الجوهرية لكل سيميوزيس ممكن“[27].
إن ثلاثية عناصر العلامة، ومفهوم السيميوزيس الذي يسمح بالنظر إلى كل عنصر من هذه العناصر باعتباره علامة لها بدورها ممثلتها وموضوعتها ومؤولتها. كل هذا يسمح بتمييز تسعة أنماط من العلامات مقسمة ثلاثة تقسيمات بحسب مستويات ثلاثة:
أولا- المستوى التركيبي؛ حيث يتم النظر إلى “الممثلة” باعتبارها علامة في حد ذاتها، لها ممثلتها الخاصة وموضوعتها ومؤولتها الخاصتين. ففي علاقتها بذاتها (أي بممثلتها الخاصة) هي عبارة عن “علامة كيفية” (qualisigne)، وفي علاقتها بموضوعتها هي “علامة مفردة” (sinsigne)، وفي علاقتها بمؤولتها هي “علامة- قانون” (legisgne)[28].
ثانيا- المستوى الدلالي؛ حيث يتم النظر إلى “الموضوعة” باعتبارها علامة ثلاثية أيضا: ففي علاقتها بممثلتها تكون “أيقونة” (icône)؛ وفي علاقتها بذاتها تكون “أمارة” (indice)، وفي علاقتها بمؤولتها تكون “رمزا” (symbole)[29].
ثالثا- المستوى التداولي؛ حيث يتم النظر إلى “المؤولة” كعلامة، فتكون في علاقتها بمؤولتها أو بموضوعتها أو بذاتها، إما “خبرا” (rhème) أو “مقولة” (dicisigne) أو “دليلا” (argument)[30].
لقد تميز عمل بيرس بقدرة عجيبة على التجريد والتصنيف وإدماج جميع وجهات النظر التي يمكن أن تسلط على العلامة، الشيء الذي مكنه من تحصيل سبعة وعشرين نوعا من العلامات يطغى في كل نوع منها نمطٌ من الأنماط التسعة المذكورة[31]. غير أننا نكتفي هنا بذكر هذه الأنماط التسعة، تبعا لمتسويات التحليل وفروع السيمياء كما حددها بيرس:
- النحو الخالص/ المستوى التركيبي/ الممثلة:
*علامة كيفية (qualisigne)
*علامة مفردة (sinsigne)
*علامة- قانون (legisigne)
- المنطق/ المستوى الدلالي/ الموضوعة:
*علامة أيقونية (icone)
*علامة رمزية (symbole)
*علامة أمارية (indice)
- البلاغة/ المستوى التداولي/المؤولة:
*علامة خبرية (rhème)
*علامة مقولة (dicisigne)
*علامة دليلية (argument)

2- سيمياء شارل موريس
استوحي شارل موريس سيمياء بيرس، وذهب بها مذهبين: مذهب سلوكي (behavioriste) متوارَث عن لسانيات بلومفيلد، ومذهب إبستمولوجي يبحث عن موقع مهيمن للسيمياء داخل جميع العلوم.
فقد رأى موريس أن العلاقة بين السيمياء والعلوم علاقة مزدوجة، لأن هذه السيمياء علم ضمن العلوم وأداة لهذه العلوم في نفس الوقت: فهي من جهة أولى “تدرس الأشياء وخصائص الأشياء في اشتغالها كعلامات“؛ وهي من جهة ثانية تقدم المفاهيم والأدوات للعلوم الأخرى، بما أن “كل علم يستخدم العلامات ويعبر عن نتائجه بواسطة العلامات“[32]. إن السيمياء إذن هي بمثابة أورغوانون (organon) لعلم العلوم (métascience)، أي “بنية نظرية جامعة ومتسعة تشمل النتائج المحصلة انطلاقا من منظورات مختلفة في كلٍّ موحد ومنسجم“[33]. لذلك يعتبر موريس أن الهدف من اقتراحه هو المساهمة في هذه البنية الموحدة من خلال رسم “الخطوط الكبرى لعلم العلامات“[34].
وكما رأينا عند بيرس، فإن الموضوع الأساس للسيمياء عند موريس أيضا هو “السيميوزيس“، أي “السيرورة التي بموجبها يعمل شيء ما باعتباره علامة“. وتكمن هذه السيرورة في أن “شيئا ما يحدد شيئا آخر عن طريق شيء ثالث“[35]. ومن ثمة فالسيميوزيس هو العلامة لكن من منظور اشتغالها.
وتتكون العلامة من ثلاثة (أو أربعة) عناصر: أولها “حامل العلامة“، أي ذلك الجانب المباشر الذي يثير الانتباه إلى نفسه باعتباره علامة، والذي يستدعي- تبعا لذلك- عملية تأويلية تنطلق منه؛ والعنصر الثاني هو “المعيِّن” (designatum)، أي ما يحدده حامل العلامة داخل العملية التأويلية؛ أما العنصر الثالث فهو “المؤولة” (interprétant)، أي الأثر الذي تحدثه العلامة في الشخص المؤوِّل (l’interprète)؛ وأما العنصر الرابع (الذي يدمجه موريس غالبا في العنصر الثالث) فهو المؤول ذاته الذي يكون نتيجة لسيرورة هذه العناصر جميعها.
فحامل العلامة إذن هو ما يعمل كعلامة، والمعيِّن هو ما يحددها كعلامة، والمؤولة هي الأثر الناتج عن ذلك لدى مؤول معين. وهذه العناصر هي التي نذكرها دون أن نسميها حين نقول: “شيء ما يحيل إلى شيء آخر بالنسبة لشخص ما“.
وتجدر الإشارة إلى أن موريس يحرص على التمييز بين “المُعَيِّن” (designatum) وبين الشيء المُعَيَّن (designata): فالثاني هو المرجع الخارجي (الواقعي) الذي يحيل عليه المُعَيـِّن، أما المُعَيـَّن فهو تلك الإحالة ذاتها، وهي داخلية أي متضمنة داخل العلامة[36].
كما يحرص موريس على التمييز بين “المؤوِّلة” و”المؤوِّل” (أي الشخص الشارح)، غير أنه يسقط في غير قليل من الغموض، وذلك ناتج عن تصوره المزدوج للمؤولة: فهو يعتبرها أحد العناصر الداخلية للعلامة من جهة، ومن جهة ثانية يعدها أثرا ناتجا في ذهن مستعمل العلامة (المؤول). ولعل ذلك ناتج عن المقتضيات “السلوكية” التي تحكم تصوره بصفة عامة، والتي تميز نظريته من نظرية بيرس.
فمستعمل العلامة يمثل في نفس الوقت المؤولة والمؤول، ولذلك تعتبر العلامة مكونا سلوكيا بالدرجة الأولى. ولعل ذلك يتضح أكثر عند تحليل عينة “الكلب” الشهير في النظرية السلوكية (béhaviorisme): فالكلب يستجيب لصوت معين (= حامل العلامة) بواسطة نمط من السلوك هو إفراز اللعاب (= المؤولة)؛ وهذا السلوك (هذه المؤولة) يقتضي فكرة الطعام (= المعيـِّن) التي تحيل طبعا إلى الطعام ( المعيـَّن)، والذي يوجد خارج العلامة كما ذكرنا[37].
ومن خلال فحص العلاقات بين مكونات العلامة الثلاثة، يجرد موريس ثلاثة أنماط من العلاقات الثنائية، تعبر عن ثلاثة أبعاد للسيميوزيس، وتحدد في نفس الوقت ثلاثة فروع معرفية داخل السيمياء([38]):
1- علاقة العلامات فيما بينها (أي العلاقة بين حاملي العلامات[39])، وهي تعبِّر عن “البعد التركيبي في السيميوزيس“، وينبغي أن تُدرَس انطلاقا من “علم التركيب” (la syntaxique)؛
2- العلاقة بين العلامات (حاملي العلامات) والمُعَيِّنات، وهي تعبر عن “البعد الدلالي للسيميوزيس“، ولذلك يجب أن تدرس انطلاقا من “علم الدلالة” (la sémantique)؛
3- العلاقة بين العلامات والمؤولات، وهي تمثل “البعد التداولي للسيميوزيس“، وتدرَس انطلاقا من “التداولية” (la pragmatique).
وقد اهتم موريس بتخصيص مصطلحات دالة على الأفعال التي يقوم بها كل بعد من هذه الأبعاد العلائقية، وهي: الاقتضاء (implication) والتعيين (désignation) والتعبير (expression).
فالعلامات في البعد التركيبي يقتضي بعضها بعضا، وفي البعد الدلالي تعين شيئا ما (هو المرجع أو المعيَّن)، وفي البعد التداولي تُعَبِّر عن مُؤَوِل ما[40].
نلاحظ من خلال هذه التصورات أن موريس أعاد إنتاج أهم تصورات بيرس السيميائية لكن في سياق النظرية السلوكية، مما جعله يقدم سيمياء سلوكية تنبني على منطق الإثارة والاستجابة. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أنه أعاد للنموذج اللغوي موقعه المتميز داخل السيمياء، بعد أن بدا هذا النموذج باهتا في نظرية بيرس. وقد ضاعف موريس اهتمامه بالنموذج اللغوي في كتاب لم يترجم بعد إلى اللغة الفرنسية، ولا إلى العربية، وهو بعنوان: “العلامات، اللغة، والسلوكية“[41].
الهوامش
[1]- مثلت تصورات وأبحاث فلسفة اللغة والمنطق الرمزي التي قدمها أقطاب مدرسة فيينا، فريج (G.Frege) وكارناب (R.Carnap) وروسل (B.Russel) وفيتغينشتاين (L.Wittgenstein) وغيرهم، حول الدلالة والعلاقات الكلامية والمعنى والمرجع والسياق، أرضية خصبة لانطلاق نظريات لسانية تداولية (Pragmatiques)، سرعان ما تقاطعت مع مفاهيم بيرس، وتوسعت مع شارل موريس (Ch.Morris)، لتـُرسَم معالمُ مبحثٍ تداولي للعلامات عام وشامل.
[2]- charles senders Peirce: Ecrits sur le signe. Ed. Seuil, Paris, 1978, p. 32.
[3]- المرجع السابق، ص: 120. يقول بيرس أيضا: “إن المنطق بمعناه العام ليس إلا اسما آخر للسيمياء“. وبذلك فالسيمياء جزء من العلوم المعيارية الثلاثة: المنطق (Logique)، علم الصحيح والخطأ؛ وعلم الأخلاق (Ethique)، علم الخير والشر؛ ثم علم الجمال (Esthétique)، علم الجميل والقبيح. المرجع نفسه، ص: 120.
[4]- يسميها بيرس أيضا (la phanéroscopie) أو (l’Ideoscopie) أو (Phénoménologie) المرجع السابق، ص: 68.
[5]- العنصر البارز (le pahéron) هو “كل شيء حاضر في الذهن، بأية طريقة وبأي معنى كان الشيء، ودون اعتبار لكون هذا الشيء يتطابق مع شيء معين في الواقع أم لا“. فالبارز إذن هو “فكرة“، لكن دون أي تضمينات سيكولوجية (ص: 67-68).
[15]- نضع “الممثلة” و”الموضوعة” و”المؤولة” مصطلحات مقابلة للمفاهيم الثلاثة المذكورة؛ وذلك من أجل تخصيصها باعتبارها مرتبطة بسيمياء بيرس وموريس، دون خلطها بمفاهيم ومصطلحات أخرى مستعملة في الاتجاهات السيميائية الأخرى غير الاتجاه التداولي.
[18]- المرجع السابق (بيرس)، ص: 112. ويؤكد بيرس أنه لا يستعمل مصطلح (object) باعتباره معارضا لـ (subject). فالأمر بعيد عن التقابل: ذات / موضوع. (المرجع نفسه، ص: 66) إن (الموضوعة) هنا تشبه إلى حد ما “المدلول” السوسيري.
[23]- المرجع السابق، ص: 53. (انظر أيضا (deledalle)، ص: 69). ويمكن أن نفهم الفرق بين الموضوعة المباشرة والموضوعة غير المباشرة في ضوء التمييز بين “التعيين” و”الإيحاء” كما جاء عند سوسير أو جاكبسون أو هييلمسليف أو بارط…
[24]- المرجع السابق، ص: 31. (انظر أيضا (deledalle)، ص: 39)
[25]- المرجع السابق، ص: 69. وبهذا المعنى فإن المدلول عند سويسر (مفهوم الشجرة مثلا) ليس مدلولا إلا لأننا اعتبرنا أن الصورة السمعية “شجرة“ هي الدال، وإلا فقد نعكس الأمر ونعتبر مفهوم الشجرة هو الدال والأصوات أو الصورة السمعية هي المدلول.
[32]- Charles Morris: “ Fondements de la théorie des signes ”, in Langages, n° 35, septembre 1974, p. 15.
ينطلق موريس- شأنه شأن ليبنيز وكاسيرر وبيرس وغيرهم من السيميائيين- من كون الإنسان هو “أكثر الكائنات استعمالا للعلامات” وكون العلامات الإنسانية (الكتابة، الفن، الكلام… إلخ) هي الأكثر تركيبا وتعقيدا”. المرجع السابق، ص: 15.
[39]- فكل علامة لها- بالقوة أو بالفعل- علاقة بعلامات أخرى، ذلك على الأقل لأن العلامة تجعل المؤول يعرف شيئا ما لا يمكن التعبير عنه إلا بواسطة علامات أخرى. المرجع السابق، ص: 19.
[40]- مثلا كلمة “طاولة” هي حامل علامة يقت
داروين: التصميم المعقد يوجد في طبيعيا دون الحاجة لافتراض مصمم.

3 - سيمياء جوليا كريستيفا وجاك لـَكان
السيمياء التـحليلية
اقترحت جوليا كريستيفا نظرية عامة حول العلامات اصطلحت عليها بـ»السيمياء التحليلية«([1]). وهي عبارة عن منطق عام للممارسات الدالة (pratiques signifiantes)، يدرس جميع مواضيع الفكر والمجتمع ويحاول الاقتراب من الخطاب الإبستمولوجي. ([2])
فالسيمياء التحليلية حسب كريستيفا لها وضع مزدوج، إذ هي »علم من بين العلوم«، وهي في نفس الوقت »نقد للعلم«: فهي علم لأن لها موضوعا خاصا هو »أنماط الدلالة وقوانينها في المجتمع والفكر«؛ وهي نقد للعلم لأنها »تحتفظ بمسافة نظرية تـُمَكِّنها من التفكير في الخطابات العلمية التي هي جزء منها«([3]). إنها »نظرية نقدية« و»نقد لهذه النظرية« في وقت واحد، أي نقد لذاتها وللعلوم الأخرى([4]).
إن الخطاب العلمي يعود إلى اللغات ليستخرج نماذجها، وبما أن الممارسة الاجتماعية (أي الاقتصاد والطقوس والفن وغير ذلك) عبارة عن أنساق دالة ومُبَنْيَنَة مثل اللغة، فإن »كل ممارسة يمكن دراستها باعتبارها نموذجا ثانويا بالنسبة للغة الطبيعية«([5])؛ وهذا يجعل مهمة السيمياء التحليلية- حسب كريستيفا- هي إعادة إنتاج النماذج([6]).
ويعتبر »النص« هو الموضوع الخصوصي للسيمياء التحليلية، غير أن كريستيفا تنظر إليه نظرة تزاوج فيها بين ما هو بنيوي- شكلاني وما هو مرتبط بالدلالة التاريخية والاجتماعية. فهي حين تتساءل عن »قوانين اشتغال« النص وعن »دوره التاريخي والاجتماعي«، تعيد ربط مفهوم النص بالذات والتاريخ والمجتمع، دون أن تسقط في التصورات الكلاسيكية:
فالنص من جهة أولى، مرتبط باللغة ومنغرس فيها، »يحفر عموديا في سطح الكلام ليبحث لنفسه عن نماذج للاندلال (signifiance)«؛ ولذلك فعلاقته باللغة مبنية على الصراع، لأنه يسائلها ويُغَيِّرها، أي »يخرجها من آلية اشتغالها العادي« ويربك تنظيمها المنطقي والنحوي([7]). إن النص عبارة عن آلية عبر- لسانية (trans-linguistique) تعيد إنتاج نظام اللسان، وذلك لأنه يربط الكلام التواصلي (الذي يهدف إلى الإخبار المباشر) بمختلف أنماط الخطابات والملفوظات السابقة والمزامِنة له في إطار علاقات تناصية (intertextuelles)([8]).
والنص من جهة أخرى مرتبط بالواقع، إذ لا يكتفي بأن يمثل هذا الواقع ويدل عليه وفق قواعد يحددها النحو، وإنما »يشارك أيضا في حركية الواقع وتحوله«. فالنص »يتجه صوب الصيرورة الاجتماعية، ويشارك فيها باعتباره خطابا«([9]).
يتضح مما سبق أن ما يتم البحث فيه ليس هو النص باعتباره بنية جاهزة، وإنما النص باعتباره عمليةَ بَنْيَنَةٍ (structuration) تتفاعل داخلها الصراعات الاجتماعية والغرائز النفسية في جدلية هدم وبناء([10]). فالأمر يتعلق بالاشتغال النصي (fonctionnement textuel) الذي يخترق التنظيم النحوي للخطاب، لينفذ إلى رُشَيْمَات (germes) الدلالة، أما النص فلن يكون إلا أثرا لهذا الاشتغال النصي([11]).
وتجدر الإشارة إلى أن كريستيفا لا تتحدث هنا عن النص الأدبي تحديدا، وإنما تعني بالنص كل ممارسة دالة في المجتمع. وبذلك فالانزياح عن معايير اللسان عندها ليس خاصية أدبية، وإنما هو خاصية لجميع النصوص، أي جميع الممارسات الدالة، لأن الدلالة لا تتولد إلا من خلال تغيير وتحويل النسق النحوي. ومع ذلك فإن كريستيفا تعتبر علاقة النصوص الأدبية بالنسق اللساني مجالا نموذجيا للحديث عن الممارسات الدالة([12]).
ولتحليل الاشتغال النصي رصدت كريستيفا معطيات معرفية متنوعة استقتها من اللسانيات (نظرية شومسكي التوليدية، ونظرية بنفنست حول التلفظ) والماركسية (خصوصا قراءة ألتوسير لنظرية ماركس) والتحليل النفسي (من خلال تصورات لـَكان) والتفكيكية وسوسيولوجيا الأدب (باختين)، بالإضافة إلى ما يميز تفكيرَها من عمق فلسفي تنبعث منه روائح نيتشية.
وقد انعكس هذا التقاطع المعرفي في المفاهيم الأساس التي بلورتها جوليا كريستيفا لإضاءة الاشتغال النصي، وهي مفاهيم نشير إلى أبرزها كما يلي:
- الاندلال (signifiance): وهو ما يحدث داخل اللغة من مجابهة بين النص والمعايير المنطقية والنحوية للسان، وما يتولد عن ذلك من دلالة. إنه ذلك التأرجح بين إدخال الواقع إلى اللغة وإخراج اللغة إلى الواقع. وكما تقول كريستيفا: »سيكون الاندلال هو التوليد الذي يمكننا أن ندركه بشكل مزدوج: أولا توليد نسيج اللغة، وثانيا توليد هذا »الأنا« الذي يجعل نفسه في موقع تقديم الاندلال«([13]). فإذا كانت الدلالة مرتبطة بالملفوظ باعتباره إرسالية لغوية، فإن الاندلال مرتبط بالتلفظ (أو بالذات المتلفظة) باعتباره سيرورة ترميزية.
- ظاهرية النص (phéno-texte) وتوليدية النص (géno-texte): فظاهرية النص هي »الواجهة الفينومينولوجية للملفوظ«([14])، بينما توليدية النص هي »الاشتغال الدال للنص، والمسؤول عن ولادة بنياته الصوتية والتركيبية والدلالية«([15])؛ الأولى »بنية« (structure) والثانية »بَنْيَنَة« (structuration).
فتوليدية النص تشمل كل العمليات السيميائية الأولية المسؤولة عن أنوية المعنى، وهي جميعا تُحَرِّكُها الدوافع والغرائز والصراعات الاجتماعية. إنها عمليات النقل الأولى للطاقات الغريزية والبيولوجية والاجتماعية، أي عبارة عن آلية تُنَشِّطُها الدوافع الغريزية والتداعيات الجسدية البيولوجية والإيكولوجية والكيان الاجتماعي والعائلي المسؤول عن الإنتاج. فهي إذن الأساس التلفظي الأولي الذي تتولد فيه بنيات النص، أي ظاهريته. ([16])
أما ظاهرية النص فهي الصياغة النهائية لوحدات البنية العميقة. وهي بذلك »خاضعة لقواعد التواصل التي تقتضي وجود ذات متلفظة ومرسل إليه«([17]). إنها الإنجاز النحوي والمعجمي للإمكانات التي تقدمها توليدية النص.
إن خصوصية »الاندلال« (المفهوم الذي رأيناه)- ومعها خصوصية الاشتغال النصي (وهو ما سنراه)ـ تكمن في أنه عبارة عن »ترجمة لتوليدية النص في ظاهرية النص«([18])؛ أي ترجمة مقولات اللسان، الرمزية والأسطورية والإيديولوجية، إلى بنيات صوتية ومعجمية وتركيبية (= ظاهرية النص).
- الإنتاجية النصية (la productivité textuelle): تتحقق هذه الإنتاجية في كون النص يدخل مع اللغة في نمطين من العلاقات: علاقة إعادة توزيع (rapport redistributif)، وهي علاقة تفكيكية- بنائية لأن النص يغير معايير اللسان ويُحَوِّلها كما قلنا؛ وعلاقة تبادل وتناوب، لأن النص يفتح المجال لملفوظات أخرى آتية من نصوص أخرى تدخل في النص وتتقاطع مع ملفوظاته، وهي بذلك علاقة حوارية أو تناصية([19]).
- الممارسة الدالة (la pratique signifiante): ويجد هذا المفهوم أصله عند لويس ألتوسير حين تحدث عن »الممارسة الاجتماعية« باعتبارها عمليةً تُحَوِّل الطبيعة (المادة الأولية) إلى منتوج قابل للاستعمال من قِبَل الإنسان في ظل علاقات إنتاجية معينة([20]). والمحدِّد الأساس لهذه العملية ليس هو المادة الأولية، ولا هو العلاقات الإنتاجية أو المنتوج النهائي، وإنما هو الممارسة في حد ذاتها، أي عملية تحويل المادة الأولية إلى منتوج من خلال استعمال وسائل إنتاج معينة([21]). وبذلك يتضح أن الممارسة الدالة عند كريستيفا هي ذلك الاشتغال النصي الذي يعتمل في توليدية النص ويقوم بتحويلات وتغييرات من خلال تفكيك اللغة وبنائها وإعادة إنتاجها بشكل يُبْرِزُ عملية الاندلال التي تفضي إلى ظاهرية النص([22]).
حاولت كريستيفا إذاً أن تجعل السيمياء علما عاما لكل »التنظيمات النصية«، يدرسها ويفحص آليات اشتغالها النفسية والاجتماعية واللغوية، ثم يحدد موقعَها داخل النص العام الذي هو الثقافة([23])؛ لذلك نجدها تنحت مفهوم/مصطلح »الإيديولوجيم« (Idéologime) باعتباره »الوظيفة التي تجمع الممارسات عبر- اللسانية (trans-linguistique) لمجتمع ما من خلال تكثيف نمط التفكير المهيمن«([24]). فالإيديولوجيم هو الوظيفة التناصية التي تعتمل في توليدية النص، والتي يمكن أن نقرأها مجسدة في مختلف مستويات بنيته الظاهرية. فهذه الوظيفة تمتد عبر النص، عموديا وأفقيا، لتُحَقِّق له ارتباطاته التاريخية والإيديولوجية([25]).
وبذلك لن تكون السيمياء التحليلية- حسب كريستيفا- إلا علما نقديا للإيديولوجيا التي تعبر عن نفسها، من خلال الإيديولوجيم، داخل مختلف الممارسات الدالة في المجتمع([26]). وهذا ما جعل كريستيفا تقترح تسميات أخرى لهذه السيمياء منها: »المادية الجدلية الجديدة«، و»المنطق الجدلي« و»علم النفس المعرفي المادي« (gnoséologie matérialiste)… ([27])
وقدَّم جاك لـَكان سيمياء تحليلية أخرى متميزة، يجمع فيها بين المعطيات اللسانية ونظرية التحليل النفسي، ليصوغ تصورا جديدا حول اللاشعور وطريقة اشتغاله في اللغة والنصوص. فاللغة لم تعد مجرد تمظهرِ لِلاشعور كما ذهب إلى ذلك فرويد وأتباعه، بل أصبح اللاشعور ذاته تمظهرا للغة([28]).
وإذا كان سوسير يعتبر الدال والمدلول مثل صفحتي الورقة أو وجْهَي العملة لا ينفصلان، وأنهما وقتما اجتمعا يُنْتـَج المعنى في وحدةٍ من وحدات اللغة (= العلامة)، فإن لـَكان ينتقد هذا التصور ويذهب إلى أن اجتماع الدال بالمدلول لا يعكس علاقة متبادلة ومتطابقة بينهما، لأن هناك دائما حاجزا يمنع الدال من الارتباط بالمدلول والإحالة عليه([29]).
إن الدال- حسب لـَكان- لا يمثل المدلول، وإنما يعمل بصورة مستقلة عن دلالته وبعيدا عن مدلوله. فهو لا يحيل إلى المدلول بل يحيل إلى دال آخر هو بدوره يحيل على دال ثالث ضمن سلسلة من الدوال هي ما يشكل نظام اللغة. أما المدلول فهو ينزلق دوما تحت الدوال ليتركها تحيل إلى بعضها البعض. ([30])
ويتضح هذا التسلسل االدَّالِّي وهذا الانزلاق (glissement) المدلولي عند تحليل كل من الاستعارة (métaphore) والمجاز (métonimie) باعتبارهما العمليتين الرئيستين لاشتغال لغة اللاشعور.
ينطلق لـَكان من مفاهيم فرويد المتعلقة بـ »التكثيف« و»النقل«، بالإضافة إلى تصورات رومان جاكبسون حول »الاستعارة« و»المجاز«: فالاستعارة تقوم على محور الاستبدال، ومن ثمة فهي تمثل شبكة مكثفة من الصور المتشابهة في بعض المظاهر؛ أما المجاز فهو يقوم على المحور التركيبي، ولذلك يعتمد آلية النقل التي تربط بين كلمة وأخرى ضمن السلسلة الدالة([31])؛ وفي كلتا الحالتين نجد المدلول ينزلق دائما ويؤجَّل ليجعل لغة اللاشعور قادرة على الاشتغال بدوال خالصة يحيل بعضها على بعض([32]).
فإذا كانت الاستعارة مثلا هي »يضحك القـدر«، نكون أمام علامتين: الأولى هي »الإنسان«، والثانية هي »القدر«. وإذا كان المجاز مثلا هو »شربت كأسا«، نكون أمام علامة أولى هي »الخمر«، وعلامة ثانية هي »الكأس«، فيتم نقل الدال في العلامة الثانية إلى موقع الدال في العلامة الأولى.
وهكذا، فحين يشتغل التحليل النفسي على هاته الآليات اللغوية في اللاشعور، يتم الكشف عن البنية اللغوية بكاملها([33]). فاللاشعور إذاً ليس خزانا للصور والتداعيات، وإنما هو لغة قائمة بذاتها، لها شيفرتها وقوانينها الخاصة. فالفرد يأتي إلى العالم ليجد اللغة موجودة بشكل قبلي، ومن ثمة فإن الدوال تخترقه لتُشَكِّل صور العالم في لا شعوره، وتأخذ هذه الصور شكل سلسلة من الدوال التي تحيل إلى بعضها من خلال التكثيف (الاستعارة) والنقل (المجاز). أما المدلول فيبقى دائما خارج هذه السلسلة باعتباره مُنْزَلِقاً ومُؤَجَّلا([34]).
ويتضح الجانب التطبيقي لتصورات لـَكان، من خلال دراسته لقصة إدغار ألان بو (E.A. poe) »الرسالة المسروقة«، حيث يُبْرِزُ أن النظام الرمزي (الدوال) »هو الذي يشكل الذات«، أي أن »القوانين الرمزية الخاصة بالسلسلة الدالة هي التي تنظم الآثار النفسية المحدِّدة للذات«([35]).
فالقصة تحكي عن مَلِكَة تتلقى رسالة، لكنها تـُباغَث بدخول الملك فتضعها فوق الطاولة مستغلة عدم انتباهه؛ لكن الوزير، الذي يدخل مباشرة بعد الملك، يلمح الرسالة ويلاحظ ارتباك الملكة، فيخرج من جيبه رسالة مشابهة لها مظهريا فيضعها على الطاولة ويأخذ الأولى. ورغم أن الملكة رأت صنيع الوزير، فإنها لم تستطع أن تتدخل حتى لا يُفْتَضَح أمرُها أمام الملك.
مشهد ثان يقع في مكتب الوزير، حيث يدخل المُخْبِر (Dupin) إلى مكتب الوزير ويرى الرسالة المسروقة في حقيبة أوراق معلقة. وفي ذلك الحين يقع حادث في الخارج كان المُخبِر قد خطَّط له ودبَّر، فذهب الوزير صوب النافذة ليرى ما وقع. آنذاك استغل المخبر الفرصة فأخذ الرسالة ووضع مكانها رسالة شبيهة مظهريا([36]).
إن ما يرصده لـَكان في هذه القصة هو آلية »التكرار« (répétition) التي ينبني عليها »تقاطع الذوات« (intersubjectivité) من جراء تسلسل الدوال وغياب الإحالة إلى المدلولات([37]).
فالقصة تعكس ثلاث نظرات، تحملها ثلاث ذاوت، تتجلى في أشخاص مختلفين:
1- النظرة الأولى هي النظرة التي »لا ترى شيئا«؛ وهي نظرة الملك.
2- النظرة الثانية هي النظرة »التي ترى أن النظرة الأولى لا ترى شيئا«؛ نظرة الملكة.
3- النظرة الثالثة هي النظرة التي ترى أن كلا من النظرة الأولى والنظرة الثانية تتركان ما هو مخفي ظاهرا لمن أراد أن يراه؛ نظرة الوزير.
فالرسالة المسروقة هي ذلك الدال الذي ينتقل في المكان وفي الزمن، ويجعل الذوات (أي النظرات) تنتقل وتتقاطع، ومن ثمة فكل ذات تخضع بالضرورة لنظام رمزي يخترقها ويحدد موقعها([38]).
وقد لقيت أفكار لـَكان رواجا كبيرا في مجال الدراسة الأدبية، لدى نقاد استوحوا هذه الأفكار كما هو الحال بالنسبة لشارل ميلا (Charles Méla) الذي درس نصوص العصر الوسيط من منظور السلسلة الدالة التي تكشف الأبعاد النفسية في هذه النصوص. كما رأت كاترين لوو (Cathrine Lowe) إمكانية نقل أفكار لـَكان إلى مجال الدراسة الأدبية، إذ طبقت بعضها على رواية (salambô) لفلوبير([39]).
[16]- المرجع السابق، ص: 83. فتوليدية النص- تقول كريستيفا- هي »مستوى مجرد للاشتغال اللساني، سابق للتجلي الخطابي«. فهو عبارة عن »دوال لا نهاية وغير متجلية«، المرجع السابق، ص: 282-283.
انظر محورا خاصا في هذا الكتاب »ثورة اللغة الشعرية« بعنوان «Géno-text et phénotexte»، ص: 83-86. وانظر أيضا المرجع السابق «sémiotiké»، ص: 287-280.
[18]- Sémiotiké، ص: 280.
إن ثنائية: توليدية النص / ظاهرية النص تجد مرجعيتها العلمية في مصادر مختلفة أبرزها: التحليل النفسي (اللاشعور/ الشعور)، النظرية الماركسية (البنية التحتي / البنية الفوقية)، لسانيات سويسر (المدلول/ الدال) (اللسان/ الكلام)، اللسانيات التوليدية (البنية العميقة/ البنية السطحية)، (الكفاءة/ الإنجاز).

طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى