مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

*يوم الجلاء والاستشهاد الحضاري - من قوانين التفكير والتغيير

اذهب الى الأسفل

*يوم الجلاء والاستشهاد الحضاري - من قوانين التفكير والتغيير Empty *يوم الجلاء والاستشهاد الحضاري - من قوانين التفكير والتغيير

مُساهمة  طارق فتحي الإثنين يناير 24, 2011 4:09 pm

يوم الجلاء والاستشهاد الحضاري
اعداد : طارق فتحي
الحمد لله وحده صدق وعده ونصر عبده ، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، لا شيء قبله ولا شيء بعده . ونشهد أن لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا.
(قل ياعباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)1 ؛ أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين)2.
ياأمة محمد إن أصابتكم الجراح فقد مس المسلمين من قبلكم ممن نصروا رسول الله  جراح وجراح فما ضعفوا وما وهنوا وما جبنوا.
ياأمة الاسلام إن أصابتكم الجراح فقد أصابت عدوكم أيضا فكنتم في رضا الرحمن وكانوا في سبيل الشيطان ، وهذه الحياة الدنيا إنما هي عرض حاضر وظل زائل يكون بين أولياء الله وأعدائه ؛ بخلاف الآخرة فإنها خالصة للذين آمنوا..
يوم الجلاء وفجر الاستقلال ؛ صنعته أيد كثيرة مخلصة تصدت للمحتل الفرنسي البغيض فما أذاقته طعم النوم ولقد احتل الفرنسيون الغاصبون هذه الديار ، واحتل بقية المستعمرين بلاد العرب والمسلمين وتوازعوها نهبة وأسلابا ؛ فهنا استعمار بريطاني خبيث وهنا طلياني حاقد وهنا وهنا ... حتى مابقي شبر من بلاد العرب والمسلمين إلا وهو نازف الدماء ؛ أسير الظلمة ؛ ودارت الأيام فإذا بهذه الأمة لا تنام على ضيم ولا تغفر لجلاد ولا ظالم ولا محتل ولا غاصب ، وإذا بالأرض تنفجر تحت أقدام المحتلين وإذا بدماء العزة والكرامة تهدر في القلوب ؛ بعد أن ظنوا الأمة قد ماتت ، وكيف تموت أمة يقول لها ربها (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)4 ؛ قال الامام القاسمي: " أي ان كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فان الايمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه" . إن حقد المستعمرين ما أبقى فيهم خلقا ولا مروءة وعندما دخل الجنرال الصليبي غورو دمشق مااستطاع إلا أن يخرج أحقاده الهائلة فذهب إلى قبر القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي وركله بقدمه قائلا : "ها قد عدنا ياصلاح الدين" وأتى أحفاد صلاح الدين فشلوا يد الاستعمار الفرنسي القذرة في هذه الديار ، ومن يعيش لحظته الفانية فقط فانها تسكره ويعربد بها ، والذين يحقدون على هذه الأمة ويرون ما أصابها من جراح فانهم يظنون أن هذا هو الختام وأن هذه الأمة قد وئدت والى الأبد.
والحمقى وحدهم يعيشون اللحظة الفانية ؛ أما العقلاء فيقرؤن كل التاريخ! ومن يقرأ تاريخ المسلمين فسيفاجئه الثبات العظيم لهذه الأمة ، وعليه أن يحسب لها ألف حساب وحساب ؛ فهي لن تموت بإذن الله وصدق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : (لا تزال عصابة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)5 . ومن لا يعظه هذا فليقرأ تاريخ هذه الأمة في وجه طغاة الفرس والروم .. في وجه المغول والتتار والصليبيين .. في وجه التغريب والتخريب .. في وجه الاحتلال والمعتدين .. وإن كان من آفة فينا أيها الناس فهي من داخلنا ، ولو اجتمعت أمم الأرض علينا وصفنا واحد لما استطاعت أن تنال مبتغاها ولو أن الأمة أصيبت بألف نازلة لما استطاع تقويضها أحد. مادام فقه خالد رضي الله عنه ساريا فيها لما قال لقائد الروم: "جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة". وأود أن أشير إلى أمر شديد الأهمية يجب أن يفقهه المسلمون ، وهو أن حب الموت لا يعني حرفية في الفهم ورغم أن حب الموت والشهادة والاستشهاد يبلغ أعلى صوره في ساحة الجهاد ؛ إلا أن فقه المؤمن الواعي يمتد ويمتد ليشمل كل مرافق الحياة امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا)6 وهكذا فان كل ميدان ينفع الأمة هو ميدان جهاد واستشهاد ، والملتزم بعقيدته والمنافح عن أمته لا يبالي أين يكون موته مادام في سبيل الله..
فيا مسلم ويا مسلمة : أين دور الاستشهاد الحضاري لديكم والله تعالى يقول (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)8.
لقد استقلت هذه البلاد منذ مايقارب نصف قرن وانتهى الاحتلال العسكري فوق أراضيها ثم تحررت بلاد عربية و إسلامية كثيرة إلى أن عاد معسكر الكفر بحملة شرسة ما كان هدفها التراب اليوم بل هدفها النفط والماء والسيطرة على الجو والفضاء ؛ عاد معسكر الكفر يريد الاحتلال بالسياسة والاقتصاد وفرض الهيمنة الدخيلة في الفكر والثقافة والحياة الاجتماعية عاد معسكر الكفر يصول ويجول.
ويا دعاة الهدى والـحق معــذرة فيم التفرق والطاغوت متحـد
كل الطواغيت في الدنيا قد اتحـدت ونحن أهل الهدى واحسرتي بَدَدُ
إن كان من سبب واه لفرقتنـــا فألف دعوة حق تهتف اتحـدوا
أيها الإخوة والأخوات: لسنا نريد الحماسة من دون وعي شامل ؛ الصخب لا يأتي بشيء ؛ نريد عزائم صادقة من كل أخ وأخت. الوعي بطبيعة المعركة أمر أساسي ، وماعادت الحرب مع المستعمر والمحتل ومع بني صهيون والأنظمة التي وراءهم في ساحة نار ورصاص فقط بل أصبحت أخطر بكثير ، ورأس المال فيها تستمدونه من قوله تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)9 نريد منكم معنويات مرتفعة ؛ ثباتا دائما ؛ حيوية متدفقة ؛ ليس اليأس من صفات المؤمنين.كتب لي أخ رسالة رقيقة جدا جزاه الله خيرا كلها نصائح وخصوصا لما صار يحسه من انهماك كثرة من شباب الأمة في أمور ينبغي لهم أن يصمدوا في وجهها ؛ الأمر ليس سهلا ولكنه ليس بمستحيل ؛ يتحدث عمن تستنزف أخلاقهم ودينهم أفلام الفساد المبثوثة من الفضاء ؛ من محطات وشبكات بث مدمرة تكمل عمل يهود.
فياشباب الإسلام ويابنات الإسلام ؛ أمزيدا من الضياع وترون مايصنع يهود! أمزيدا من الغرق وأنتم ترون ماحل بأمة العرب والمسلمين! أمزيدا من الشهوات وفي كل لحظة تمضي الآن يعتقل أخ مجاهد من حركة المقاومة الاسلامية حماس أو من حركة الجهاد الاسلامي ويصادر سلاحهم. أمزيدا من الغفلة وقد أصبحت معظم بلاد العرب والمسلمين مثل سبايا الحرب مستباحة الأعراض ؛ ومابقي في الساح إلا هذا البلد الشامخ يلعق الجراح ويمضي لا يبالي بمن تساقطوا تساقط الفراش. أمزيدا من اللهو وفي أرض الاسراء والمعراج يصبح الخونة حكاما والأبطال مجرمين ، ويزجون في السجون وهم هم المقاتلون عن الأمة عندما باعها الأنذال.
سبع عجاف لأعتى الظلم قد صمدوا أما استحى البغي من زغب له صمدوا
أمزيدا من ضياع الوقت والجهد والأعصاب ووقوعا في الفخاخ ، وبلدكم الذي استقل منذ مايقارب نصف قرن يراد له الذل ويكاد له على كل صعيد ؛ حفظه الله وصانه وحماه ووقاه ورعاه وزاده أمنا وأمانا وإيمانا.
ياابن الإسلام وياابنة الإسلام : إن يوم الجلاء القادم ينبغي أن يكون لكل أمة العرب والمسلمين ، ولقد كادوا للأمة حتى أسقطوا الخلافة الاسلامية في تركيا على يد الماسونيين ، ثم كادوا ومزقوا ديار المسلمين أشتاتا ثم كادوا وكادوا ... حتى أوقعوا العرب والمسلمين فيما بينهم ثم كادوا وكادوا ... ثم سلوا السيوف يذبحون يريقون الدماء أو يحاصرون الشعوب ... ينهبون النفط أو يسرقون المال ... يغرسون الفواحش أو يسعرون الشهوات ... يخربون الاقتصاد أو يحاولون الهيمنة على السياسة والقرار المستقل ... بل بلغ من تبجح الآلة العسكرية الصهيونية أنها هددت إيران وباكستان بالقصف الجوي لمفاعلاتها النووية ... رغم أن "إسرائيل" ترفض التوقيع على معاهدة انتشار الأسلحة النووية.
إن يوم الجلاء يوم يجب أن يشحذ عزيمة الأمة ، وعندما كنت صغيرا كان عندنا في المدرسة الابتدائية درس للنشيد وكنا في كل أسبوع نتعلم نشيدا مؤثرا يحرك الجبال ، فمن نشيد ثورة الجزائر العظيمة إلى نشيد المقاومة المصرية ضد العدوان الثلاثي ؛ إلى الكلمات المؤثرة للنشيد السوري تتحدث عن راية تضم شمل الأمة :
ومن حق يوم الجلاء في الأمة أن نتذكر رجالات الأمة ومن الوفاء أن تعاد سيرهم وأخبارهم لا في هذا البلد فقط بل في كل بلد عربي إسلامي ؛ فإن الحدود بيننا حدود وضعها المحتلون ، ويا ديار العروبة والإسلام.
ذري ترابك لا ترهبك فرقتنا فالمؤمنون على بعد الديار يد
إن فرقتنا حدود لا بقاء لها يظل يجمعنا في الله معتقــد
- للمراجعة : كتاب الإسلام وحركات التحرر العربية للدكتور شوقي أبو خليل ، دار الفكر ـ دمشق ، والذي يظهر أن العلماء المسلمين كانوا قادة تحرير البلاد العربية من المحتلين والغاصبين

من قوانين التفكير
الحمد لله ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا و أهلها ظالمون ) 1. و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ( وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم و إليه ترجعون ) 2. و نشهد أن سيدنا و قدوتنا محمداً عبد الله و رسوله ،
( ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم و لكن رسول اللهِ وخاتم النبيينَ و كان الله بكل شيء عليماً ) 3.
أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة وإن من كلامه تعالى قولَه : ( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرضَ وما بينهما إلا بالحَقِّ و أجلٍ مسمى و إن كثيراً من الناس بلقآئ ربهم لكافرون ) 4.
( أولم يتفكروا ما في أنفسهم ) ما هو الفكر و التفكير . يقول الإمام الفيروزابادي في بصائر ذوي التمييز أن الفكر: قوة مُطَرِّقَة للعلم إلى المعلوم [ أي موصله له ] والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل .
وفي معاجم اللغة : الفِكر هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول ، و يقالُ : فَكَّرَ في مشكلةٍ [أي] أعمل عقله فيها ليتوصل إلى حلها .
وإعمال العقل واجب شرعيٌ ؛ قال تعالى: ( إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ) 5 ؛ وورد في ذم تعطيل العقل آيات كثيرة منها ( أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلونَ بها أو آذانٌ يسمعونَ بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) 6 .
والعلاقة بين العقل والتفكير في المصطلحات المعاصرة مايلي: ( التفكير هو إعمال الإنسان لإمكاناته العقلية في المحصول الثقافي المتوفر لديه لإيجاد بدائل أو حل مشكلات أوكشف العلاقات والنِّسب بين الأشياء ).
من ألزم اللوازم للأمة المسلمة إعادة اكتشاف نعمة العقل منها وإخراجه من تحت ركام هائل من العادات و الانحرافات و الاسقاطات الخاطئة لتفكر بشكل سليم ...
و أود الإشارة هنا إلى خطأ يقع فيه البعض : فالفكر ليس بديلاً بحال عن المبادئ والأحكام أو العقائد أو حتى العلم ؛ الفكر هو استخدام نشط ذكي لكل ذلك للوصول إلى مزيد من الاستيعاب لما يحيط بنا من أحداث و معطيات حاضرة وماضية و توسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل ..
إن غيبوبة العقل المفكر أدى إلى نتائج وخيمة في حياتنا : ( و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أَوَلَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ) 7 .
إن استقامة الفكر ونقاؤه ليس بديلاً عن العقائد ولا التربية ولا الأخلاق و لكنه شرط أساسي لصوابها و رشدها .. و مهمة الفكر ليس وضع المبادئ بل الحركةُ الصحيحةُ بها و طرح كل البدائل و الحلول الممكنة لتثبيت الصواب وإزاحة الخطأ ؛ إن كثيرين منَّا ماهرون في تصيد المشاكل و الحديث المؤلم و المبكي حولها لكنك إذا طلبت حلاً لم تجد إلا الوجوم أو الهروب
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص ) 8 .
و سنتعرض لبعض قوانين التفكير محاولين إرجاع بعض تصرفاتنا و قياسها إليها ، وقد استقيناها من كتابات المفكر الإسلامي د.عبد الكريم بكار :
1_ كثير منا يذكر الماضي بصورة جيدة و لكنه يمر على دروسه بسرعة غريبة :
علاقة أكثرنا بالماضي علاقة حفظ و تذكر لا علاقة اعتبار و تدبر [ أُنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملاً ] , و المصائب و الفتن لم تنل من الاهتمام والتحليل قليلاً ولا كثيراً .. وغالباً ترد إلى كلماتٍ مجملةٍ عامةٍ مثل : اتباع الهوى أو قلة التقوى أو دسائس الأعداء . وهذا أمر لا يمكن ترجمته إلى صيغة محددة نخرج منها بأمر عمليٍ يجب أن نبنيه ؛ مثال : بلاد القفقاس دخل الإسلام بداية إليها في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه و أول من وصلها عبد الرحمن بن ربيعة و سيطر على مدينة "دربند" في داغستان الآن و التي يسميها العرب "باب الأبواب" والواقعة على شاطئ بحر "قزوين" ثم أعاد حبيب بن مسلمة إعادة الفتح في عهد عثمان ، و استقرت بأيدي المسلمين عام مائة و أربعة عشر للهجرة على يد مروان بن محمد ، ومن أعظم رموزها الجهادية الإمام شامل الذي قاد المقاومة ضد القياصرة لمدة ثلاثين عاماً ثم صار أسيراً عام ألف وثمانمائة وتسعة وخمسين ؛ لم يكن سبب أسره المؤامرات الخارجية ؛ بل كان نوعاً من الحسد بين بعض الزعماء ؛ دمر كل منهما مرتكزات الآخر إضافة إلى أسباب أخرى , واتسعت الفوضى و اشترى الروس وبالأموال الكثيرين من أهالي البلاد ، ولم يعد هناك من يستقبل الإمام سوى قرية "غونيب"! وهناك قاتل الإمام شامل مع أربعمائة من أتباعه [وفيهم النساء و الأطفال] جيشاً من الروس عدده أربعون ألفاً .. لقد تخلى الناس عن قضيتهم , بعضهم من أجل الزعامة و بعضهم من أجل المال .. وبعضهم من أجل الغنائم .. إن ظاهر التاريخ يقول إن جيوش القياصرة هزمت الإمام شامل ولكن التفكير العميق يظهر لنا أن القانون القرآني غاب عن مجمل الأمة فوقعت الفاجعة : ( و أطيعوا الله ورسوله و لاتنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إنَّ الله مع الصابرين ) 9 .
إن التفكير العميق بتلك المأساة يجعل المسلم يعمل دائماً على نزع فتيل الشقاق [وحب الزعامة و التنافس على الدنيا] من قلبه .. بدل أن يقضي الوقت في أحاديث لاتزيد الناس إلا ضياعاً و إحباطاً ..
عند التفرق و التنازع و حب الدنيا فالهزيمة هي النتيجة المحققة !
2_ القانون الثاني :قليل من الناس يملك الشجاعة على مراجعة أفكاره :
إنَّ النقد ملكة راقية جداً ، والتقليد ملكةٌ شائعة جداً ، وكثير من الناس يتقبلون الأمور المحيطة بهم دون أدنى مراجعة لها ؛ ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرُصُون )10. و انتقاد الآخرين أسهل بكثير من انتقاد النفس ؛ لأن الإنسان إذا انتقد نفسه يقوم بدور الحجر و النحات في آن واحد .. و للأسف فإن قلة ممارسة النقد والمراجعة لدينا [في العالم النائم المسمى زوراً بالنامي] سبَّب أنَّ قليلاً من الأفكار التي نملكها ستصمد في وجه النقد ولو كان سطحياً ، وهناك دول ومؤسسات وجماعات لا ترضى عن التفكير ولا إعمال العقل ، وتنتقل طوال عمرها من إخفاق إلى إخفاق دون أن يكون ذلك حافزاً لها نحو أية وقفة تأمل .. لعلها تظن أنها تملك مناعة خاصة ضد آلام التجربة الفاشلة ..
كنت في عقد قران وتعرفت على رجل يحمل شهاداتٍ و اختصاصاً عالياً ، وتطرق الحديث إلى خطبة الجمعة وفوجئت به يقول : أنا أصلي ولكن ليس صلاة الجمعة .. حتى لو كنت غير مسافر أو مريض .. سألته عن السبب؟ فقال لي : لست ملزماً ولا يكلفني الله بالاستماع إلى بعض التفاهات التي يلقيها البعض بسبب ضحالتهم الشديدة! ورغم عدم موافقتي على تركه لصلاة الجمعة إلا أنني أخبرت بعض الناس بكلامه ؛ فكان من بعضهم كلام قاس بحقه وربما قال : [بالناقص] .. أو رجل محروم من الخير ، و الحق أننا لا ننتقد أنفسنا فنقع في أخطاء فادحة ، ولعل بعضها اغترار بعض الدعاة و الخطباء بامتلاء المساجد و أنا أقول : إنَّ نسبة من يصلي الجمعة اليوم أقل ممن كان يصليها قبل سنوات ..صحيح أن عدد المساجد قد ازداد ، ولكن الصحيح أن هناك زيادة في عدد السكان .. و اغترارنا بعينات دائمة تحضر في مساجدنا لا يجوز أن يغلق أعيننا عن عينات وشرائح واسعة جلّها من المثقفين الأكاديميين و ذوي الاختصاصات العالية ممن لا يجد لنفسه مكانا في بيت الله يحقق له حداً أدنى من الفائدة وزيادة العلم التي يرجوها .. نحن لاننقُدُ أنفسنا ولا نقبل النقد من الآخرين .. خطيب مسجد كان يتفاخر بأنه لا يعرف ماذا سيتكلم حتى يصعد المنبر ؛ خاطبه بعض المصلين وببالغ الأدب فانفجر في وجوههم بطريقة ستحرّم على أي واحد منهم أن يأتي بنصيحة لأحد يوماً ما و مهما كان العيب الموجود .
إن الظلم و الديكتاتورية ليس شيئاً يقوم به الحكام بل شئ يصنعه الناس ببعضهم . واحترام مقام العالم لا يعني أبداً التغاضي عن جريمة إضاعة الوقت لآلاف العقول التي تأتي طائعة تنشد الفائدة فلا تخرج إلا بأقل القليل , لقد علمنا المربي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم كيف يكون البحث عن الحق والصواب ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إنما أنا بشر و إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع , فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ) 11. فهل هناك موضوعية و نقد داخلي أعظم من هذا ؟
ليس من الظواهر السارة أن ترى بعض من يدرسون العلوم الشرعية لا يكاد أحدهم يتعلم شيئاً يسيراً حتى يبدأ بالتعالي على الناس و الغرور يملأ عطفيه ، وربما كان في مجلس فدخل من هو في سن أبيه وجده يحمل له الضيافة فينظر إليه نظر سيد إلى خادم , و ربما ظنَّ نفسه أبا حنيفةَ أو شافعيَ زمانه و نظر إلى الناس كما ينظر نظيف الثياب إلى قبيلة من الذباب تقترب منه .. وما كان الأئمة رضي الله عنهم ؛ بل تعلمنا من سيرهم أنهم كلما علا كعبهم في العلم ازدادوا تواضعاً وقد قال الشافعي رحمه الله : "كلما ازددت علماً ازددت معرفة بجهلي" وكان الجويني الملقب بإمام الحرمين أستاذ الغزالي يذهب من مجلسه فيقعد في مجالس طلابه يبغي العلم الذي ينقصه منهم .. وجاء قوم من مكان بعيد يريدون زيارة مولانا الشيخ محمد إلياس و جلسوا مع عشرات من الضيوف ينتظرون ؛ ودخل شيخ مسن يحمل "صينية" عليها أكواب الشاي فطاف بها عليهم ثم جلس ؛ ثم سأل بعضُهم : متى سيأتي الشيخ؟ وإذا بحامل الصينية هو الشيخ!! يزرع التواضع في قلبه وفي قلب تلامذته التزاماً بما روي من الهدى النبوي : ( سيد القوم خادمهم )12 .
واجبنا احترام العالم و واجب العالم أن يتواضع . إن احترام العلماء والدعاة والصالحين ، والإقبال عليهم يوهب ولا يطلب والمخلص لا يلحقه! ترى كم من التواضع نحتاج حتى نهذب نفوسنا ، وكم من الإخلاص نحتاج حتى نَنْقُد أنفسنا .. الأمر يحتاج إلى مجاهدة طويلة ، وكلنا يتصوره سهلاً وما هو بالسهل و ليجرب أحدنا أن ينقد نفسه فإذا ظفر بشيء أساء به إلى الآخرين اعتذر منهم .. ( و لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )
القانون الثالث : من الشعور بالمسؤولية تُولد الشخصية :
يقول الرافعي رحمه الله : " إن لم يكن لك أثر في هذا الوجود فأنت زائد على هذا الوجود " و الناس جميعاً لديها طاقات مخبوءة وخصائص فذة ربما تبقى كامنة في الفرد حتى الممات ؛ دون أن تكتشف ، وسبب ذلك عدم إتاحة الفرصة لها .. إحدى المعادلات السهلة الصعبة : شكوى الآباء من ترهل نفوس أولادهم و ضحالة تفكيرهم وقليلون هم الذين يعترفون بأنهم السبب في ذلك ، فالتربية الطويلة أمر لا يقوم به الكثيرون والتعامل مع الابن و الابنة على أنهم أطفال سيبقيهم أطفالاً مهما بلغوا من العمر ، ولن تتحرك طاقاتهم ليأخذوا المواقع المناسبة لهم ..
هذه الطريقة في التفكير غير سليمة ، والواجب أن نمنح حرية الحركة لمن تحت أيدينا وأن ندربهم على تحمل المسؤوليات والمهمات مع الرقابة البعيدة والإرشاد السليم ولا ريب أن هناك أشخاصٌ وربما أممٌ ليست أهلاً لتحمل مسؤوليات خطيرة ولكن هذا ليس بسبب عيب خلقي ولا تشوه جنيني ولكنه بسبب تصور اجتماعي وثقافي ، وبسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها الناس والتي ربما قتلت فيهم الإبداع و الاجتهاد وبعثت فيهم حب السكوت و إيثار السلامة حتى فيما لا خطر فيه ..
و قد أرشد القرآن الكريم صراحة إلى تحمل المسؤولية للقيام بها حق القيام : ( قل إني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغاً من الله و رسالاته ) 14 ، إذا أردت أن تحقق مبدأك فتحرك به و هناك ستكتشف الإيجابيات في نفسك فتزداد تمسكاً بها و تكتشف السلبيات فتنأى عنها .. إن صراخك في وجه ابنك ألف مرة بأن هذا العمل سيئ لا يكفي ؛ مالم تضعه في إطار عملي تجعله يكتشف فيما حوله من الوقائع صدق ما تقول ، والداعية المنظر سيبقى فظَّاً غليظ القلب مالم ينزل إلى الساحة العملية ويجلس على الرصيف مع الناس ليحس بآلامهم و معاناتهم فتنصقل لديه الأساليب ويتحرك في ظلال الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم ( وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين ) 15 .
و المرأة المسلمة لو انهالت الزواجر فوق رأسها كل يوم لم يكن لذلك أثر ما لم تحس في أعماقها بالمسؤولية ، و زرع الفضيلة و العفاف في كل موطن .
انشغلت مجتمعات إسلامية عديدة وكتاب ومفكرون ودعاة وعلماء بالحماية والوصاية بدل التنمية و التعويد على المشاركة ، لذا فإن ضعف الشخصية على صعيد جماعي و فردي ليس علة مستغربة و التوجيه الشرعي موضحاً بجلاء ( و أمرهم شورى بينهم ) 16 ؛ إنَّ غياب الشورى له معنى واضح : الاستبداد ثم انعدام المسؤولية ثم ذوبان الأفراد والمجتمعات بسبب دمار وقمع الطاقات والإمكانيات ، وأخطر من القمع و الاستبداد السياسي بكثير القمع و الاستبداد الاجتماعي ، لأن الجميع يقفون سدنة له و يحرسونه.
القانون الرابع : يجب بث روح التفاؤل باستمرار :
أحد أنواع الغيبوبة أن يشارك الجميع في بث الإحباط فيما بينهم فالدنيا لم تكن أسوأ يوماً من هذه الأيام و الأحوال لا تبشر بخير .. و اليهود قادمون لاحتلال كل شيء .. هذا المنطق مرفوض شرعاً و عقلاً ومن قال هلك الناس فهو أهلَكَهم .. إنَّ الشعور بالإحباط و انسداد الآفاق لا يحتاج إلى تحريض ولا تنشيط فهو يجتاح النفس البشرية بصورة آلية نتيجة الانكسارات التي تصادف الإنسان في هذه الأيام ، والذي يحتاج إلى معالجة وتوجيه وإصرار عنيد هو الشعور بالتفاؤل وإمكانية تحسن الأوضاع ، إذ إننا لن نكسب من وراء اليأس إلا انحسار وخمود النشاط وارتباك الوعي , ( و لا تيأسوا من رَوح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) 17 . ومن المهم في الظروف الصعبة استخراج الإيجابيات و خمائر الإصلاح و النهوض أما تعداد السلبيات فهذا مما يستطيعه كل أحد ..
لا تقل هلكنا ولكن قل لا بد من منفذ للنجاة ، و لا تقل ضاع ابني أو ابنتي ولكن قل لا تزال هناك فرصة سأغتنمها ، ولا تقل لم يعد للفضيلة أنصار ولكن قل في قلوب الناس خير كثير ، ولا تقل الدنيا مظلمة اليوم و لكن قل غداً ستشرق الشمس مهما طال الليل .
إن النقد أيها الاخوة و الأخوات ليس الكشف عن العيوب فقط بل الكشف عن مساحاتِ الخير فيها .. ما تزال في القلوب نداوة الإيمان و إن المجتمعات في ظلال الإيمان لا تضيع ، نعم تمر بتجارب قاسية و لكن تلك التجارب إما أن تكون نصراً للأمة أو قبراً ...
من كان يظن أن حفنة من الجياع العراة ربيت على منهج رسول الله صلى الله عليه و آله سلم تخرج من جزيرة العرب فتتقصف تحت أرجلها دولة الفرس ودولة الرومان ؛ لقد كانت الدنيا تعيش في ظلام فامتد إليها النور فجلا عماها .. و هكذا تفيض الحياة الصالحة دائماً الحيوية و النماء .
إن الشعور بتحدي الظروف المحيطة و الاستعانة بالله في ذلك كفيل بتحويل الأمور إلى الأفضل دائماً .. وإن إرادة التحدي مثلاً لدى الشعب الياباني قادته عند خوفه من المجاعة للعمل ليل نهار فأصبح من أمهر و أقوى شعوب الأرض في الاقتصاد ولكن شعوباً كثيرة تموت من الجوع لأنه سبب لها ذعراً فقدت معه معاقد التفكير السليم !!
المهم أيها الأخوة والأخوات أن ننتصر على أنفسنا ، على ذواتنا من الداخل ، أن ننزع منها الإعجاب و الغرور والتكبر وأن لا نعتبر أنفسنا القمة والكمال والنهاية بل جزءاً من بناء عظيم لابد في كل يوم من زيادته وتحسينه وتفقد نقاط الضعف فيه ؛ يجب أن ندور مع الحق حيث دار وإلا جمدنا وهناك يكون الاضمحلال ورحم الله الإمام الجيلاني إذ يقول : " العارف يتقلب في اليوم أربعين مرة ؛ والمنافق يقيم على حال واحدة أربعين عاماً " .
اللهم ارزقنا حسن الإنابة و حسن العمل و استعملنا صالحين ....
من قوانين التغيير
الحمد لله ( و لا تدع من دون الله ما لا ينفعك و لا يضرك ) 1.
و نشهد أن لا إله إلا الله ( فاستمسك بالذي أوحي إليك ) 2. ونشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله
( رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة ) 3 .
يا أيها الناس اتقوا ربكم ( ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يَمْهَدون ) 4 . أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) 5 . وقد ذكرنا فيما سبق بعض قوانين التفكير ، والتي قلنا أنه ليس بديلاً عن العقيدة أو المبادئ أو الأخلاق أو العلم و إنما هو إعمال العقل في كل ذلك لحل المشاكل و معرفة العلاقة بين شتى الأمور واليوم نتحدث عن بعض قوانين التغيير فنقول :
1ً_ التغيير عملية تبدأ من داخل النفس لا من خارجها :
و الآية الكريمة ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) 6 ، بينت أن مفاتيح السيطرة على تغيير الواقع وُضعت بين أيدي البشر وجعلت مكان التأثير واضحاً وهو الأنفس ، وربطت بين تغيير الواقع و تغيير النظام الذي تحتويه الأنفس وهو الأفكار والتصورات , ووضحت أن هذا قانون شامل لكل جماعة بشرية ، و قررت الآية أن التغيير هو قانون اجتماعي ، فما لم تسرِ روح التغيير في المجتمع نحو الأفضل فإن تغيير فرد لنفسه قد لا يكون كافياً للتحول . و كذلك التحول نحو الأسوأ تنطبق عليه نفس المبادئ ، ( ذلك بأن الله لم يكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) 7 .
و أشار النبي صلى الله عليه وسلم صراحة إلى مفاتيح كثيرة للتغيير الاجتماعي منها ماورد في حديث البخاري ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ) 8 ، و منه نفهم لماذا يكون متوسط عمر الفرد في سويسرا مثلاً ثمانين عاماً و في رواندا أربعين عاماً ، أما نعمة الفراغ فحسبك أن بعض المجتمعات لا تركب فيها حافلة و لا طائرة إلا ورأيت رؤوس الناس غاطسة في كتب يزدادون بها علماً ، وحسبك أن مجتمعات أخرى تعد بعشرات الملايين يطبع من الكتاب الواحد فيها ألفا نُسخة فيبقى سنوات حتى ينفذ من الأسواق .. الصحة و الفراغ نعمتان تتواصى المجتمعات بصيانتهما أو الإجهاز عليهما .. فيتدفق الخير منهما ألواناً .. فماذا لو امتزج معهما الإيمان ؛ الإمام المنذري صاحب الترغيب والترهيب نقل عنه تلميذه المرادي أنه كان في المدرسة البادرائية [في محلة القيمرية شرقي الجامع الأموي بدمشق] وكان لا يخرج من المدرسة لا لعزاء و لا لهناء و لا لفُرجه و لا لغير ذلك ؛ إلا لصلاة الجمعة ؛ بل يستغرق كل الأوقات في العلم ، و ذكر السبكي أنه كان للمنذري ولد نجيب محدث ، و هو رشيد الدين أبو بكر محمد ، و كان أحد الأذكياء النبغاء و الحفاظ - توفاه الله - فصلى عليه أبوه داخل المدرسة وشيعه إلى بابها ثم دمعت عيناه ، وقال : أودعتك يا ولدي الله تعالى و فارقه .. لقد عاد إلى الدرس خشية ضياع الوقت 9 .
و الوقتُ أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه و أراه أسهلَ ما عليكَ يضيعُ
كثير من الناس يظن أن أحواله الداخلية مقبولة وجيدة أو ليست الأسوأ ، و يقنعون أنفسهم أن هذا أفضل ما يمكن أن يصلوا إليه والحديث الشريف يقرر أنه (لن يشبع مؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة) 10 أي يسير المؤمن في عملية تطور دائم نحو الأفضل .. و لو أخذ كل منا ورقة و قلماً ليكتب عدد الأمور التي غيرها داخل نفسه ؛ لاكتشافه وجوب تغييرها [منذ عشر سنوات و حتى الآن] اختياراً لا اضطراراً لربما كانت النتائج غير متوقعة .
أمثلة : - كنت أستهلك خمسة ليترات لأجل كل وضوء ، صِرت أستهلك أقل من ليتر ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد 11 [ مقدار ملئ كفين من الماء ] و قال عليه الصلاة والسلام : (يكفي أحدكم مُدٌ في الوضوء ) 12 .
- كنت أشتري أغراضي دائماً من أبواب المساجد التي أصلي فيها يوم الجمعة .. صرت أقصِد السوق كي لا أحول مسجدي إلى سوق للخضار ..
- كنت لا أقرأ أو أقرأ الصحف و المجلات .. صرت أقرأ ما لا يقل عن خمسين صفحة من كتاب مفيد ..
- كنت أستغرق ثلاثة أرباع ساعة عند كل وجبة طعام .. صرت أنهي طعامي خلال ربع ساعة .
- كنت أعتبر أن الرجولة ترك كل شئ على عاتق زوجتي .. صرت أطبق هدي النبي صلى الله عليه و سلم في بيته و أعين زوجتي فيما أقدر عليه ..
- كنت أغتاب الناس في كل مجلس ... لم آكل لحم أحد و لله الحمد منذ عامين .
- كنت لا أهتم بتربية أولادي على الاستقامة و الصلاح ... صرت أستدرك كثيراً من الأمور التربوية و أفهم تماماً مسؤولية الأمانة التي بين يدي ..
- كنت أسيراً للقنوات الفضائية و التلفاز .. صرت حراً و تحكمت في وقتي ..
- كنت لا أنصح و لا أقبل نصيحة من أحد .. صرت أنصح شخصاً على الأقل كل يوم و أطلب النصيحة ممن حولي و أقبلها ..
- كنت غشاشاً في البيع و الشراء .. صرت مستقيماً ..
لا بد من وجود قناعة بضرورة التغيير ، والعلم ضروري حتى تحصل القناعة و لا علم في ترب تُنْحَرُ الأوقات فيها نحراً .. إنًّ الشعور بالرضا أو السخط لا ينبع من داخل الإنسان بل من خلال مقارنة الإنسان لأوضاعه مع الآخرين ؛ لذا فإن استنفار إمكانياته لدرء الخلل يزيد من قناعاته الفكرية العميقة بوجوب التغيير و قد أرشد النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذا في الحديث الشريف ( بادروا بالأعمال سبعاً ، هل تنتظرون إلا فقراً مُنسياً ، أو غنى مُطغياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مُفنداً ، أو موتاً مُجهزاً ، أو الدجال فَشَرُّ غائبٍ ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى و أمر ) 13 .
2ً _ التغيير عمل تراكمي و ليس حماسة طائشة :
يظن بعض الناس أن أحلام اليقظة قد تمتد فتشمل ما هم فيه من ظروف وهذا خلاف الواقع و خلاف التوجه الشرعي فإن أحب الدين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ما داوم عليه صاحبه كما في الصحيح 14 وفي الصحيح أيضا أنًّ أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أرأيت إن ضَعُفْتُ عن بعض العمل ، قال : تَكُفُّ شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك )15 و في الصحيح ( كل سلامى من الناس عليه صدقة كلَّ يوم تطلُع فيه الشمس : تعدِل بين اثنين صدقة ، و تعين الرجل في دابته فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، و بِكُلِّ خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة و تميط الأذى عن الطريق صدقة ) 16 ، و في حديث مسلم : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً و لو أن تلقى أخاك بوجه طلق ) 17 ..
لا بد من عمل إيجابي متواصل و دائم ، و الذين يظنون أن الأمم بنيت بالكسل فإنما هم في وهم بعيد . لقد طلق مصعب بن عمير حياة الترف وتحمل كل المشاق في سبيل الله و مضى يجني في كل دقيقة من وقته في المدينة قلباً يهديه إلى الله ، و القسطنطينية لم تفتحها للمسلمين جيوش جرارة إنقَضَّت عليه في لحظة نوم للتاريخ ، بل كانت ثمرة زرع طويل افتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أشار في الحديث الصحيح إلى أن تلك المدينة ستفتح ( ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش‍‍ )18 ...
إن أحد صانعي ذلك الفتح العظيم : أستاذ اسمه آق شمس الدين كان مربياً لطفل اسمه محمد بن مراد وكان يمسك بيده ويسير به على شاطئ البحر مشيراً إلى أسوار القسطنطينية العظيمة الشاهقة ، ثم يقول له : هذه المدينة بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتحها ، وأثنى على الجيش الذي يفتحها ، والأمير الذي يقود ذلك الجيش ... كان فتح القسطنطينية حلماً يراود خلفاء المسلمين ؛ كلهم كان يطمع بذلك ولم يستطع أحدهم الفوز بتلك البشارة حتى جاء آق شمس الدين فزرع في قلب تلميذه الصغير حب الجهاد و فتح المدينة التي استعصت على خلفاء المسلمين ، ونما ذلك الزرع ، وتألق ذلك الحب حرصاً وتراكمت أسباب الفتح واحداً بعد الآخر ، وإذا بالطفل الصغير يرى الفتح هماً لا بد له أن يتحقق ، وإذا به يُعِدُّ نفسه و يبني ما حوله ليفتح القسطنطينية ، و في يوم من أيام التاريخ تحقق العمل الطويل ، وتراكم جهد البناء في فتح مؤزر وإذا بمحمد الصغير هو السلطان محمد الفاتح ، وإذا بالمدينة العظيمة قد فتحت على يديه ، وارتج العالم الغربي كله لسقوطها وعمره الفاتح لا يتجاوز الثانية و العشرين ..
إن التغيير عمل تراكمي طويل وليس حماسة طائشة ، و بهذا نفهم كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث في مكة المكرمة ثلاثة عشرعاماً يبني النفوس ويمهد لقيام الحضارة الربانية في تتابع وتناغم مدهش وفريد.
إن قروناً من الأمجاد و التفوق لا تصنعها شعوب نائمة وقد أصاب مالك بن نبي عندما قال : "إن الشعب الثرثار لا يمكن أن يسمع صوت خطوات الوقت الهارب" ، و عندما دمرت هيروشيما بقنبلة الرعب الذري فأصبحت أثراً بعد عين ؛ لم يخطر ببال أحد أن التراكم في البناء لدى ذلك الشعب سيخرج معجزة علمية و هندسية ، ثلاثة أيام فقط بعد إلقاء رسالة الهمجية الغربية فإذا بالترام يمشي في الشوارع و كأن شيئاً لم يكن . و مجتمعات إسلامية كثيرة لا تكاد تخرج من مناحات ؛ بل متاهات التاريخ و منعطفاته المغلقة .
4 _ لا تغيير دون مرجعية :
المرجعية أمر لا بد منه لكل عمل وتغيير ، وقد حسم القرآن الكريم المرجعية لنا بقوله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )19 ، و بقوله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم ) 20 ، وبقوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر ) 21 ، و بقوله تعالى ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول ) 22 ..
يتوهم البعض أن لهم مرجعيات ، ومحك المرجعيات أمر أعمق مما يتصورون فغالباً تعيش المجتمعات المتخلفة عصبية ضيقة تظنها المرجعية وهي تتعلق بنوع من الاحترام العام الذي ليس من وراءه أي التزام عملي ، وقد رأينا بعض أبناء الدنيا يصاحبون بعض العلماء سنوات كثيرة فإذا طلب منهم الالتزام بأمر شرعي ولوا عنه كأنهم حمر مستنفرة ؛ إن للمرجعيات محاور شتى و أعظمها مرجعية العقيدة و التوحيد و الإيمان ( فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت و يسلموا تسليماً ) 23 .
و من المرجعيات أيضاً المرجعية السياسية و نذكر في هذا السياق أن عبد الرحمن بن معاوية الأموي و الذي فر إلى الأندلس و أسس فيها الدولة الأموية بعد استيلاء العباسيين في المشرق على الحكم ، عبد الرحمن هذا لقب نفسه بالأمير وكذلك سائر أبنائه من بعده و ذلك احتراماً للمرجعية السياسية الأعلى للمسلمين المتمثلة في لقب أمير المؤمنين فلم يحاول أن ينازع عليها لأنها كانت مرجعية تشد سائر البلاد الإسلامية إلى رمز واحد و تجتمع القلوب عليها كما أنها تشكل نوعاً من القوة المعنوية في وجه سائر الدول الأخرى ..
للأسف فإن التاريخ يحدثنا عن تداول مأساوي لمواقع المرجعية لم يُعتمد فيه الأكفأ ولكن الأقوى .. و دعونا من السياسة لنتحدث عن المرجعية الفقهية و العلمية . إن هناك جيوشاً ممن يتوهمون حيازة العلم لا هم لها إلا تحطيم المرجعيات السابقة و اللاحقة ، و كتب التاريخ تحفل بكثير من الخصومات بين أطراف علمية لها وزنها ولكل أمر سياقه التاريخي الخاص به ، ولكن من غير المفهوم أبداً أن يأتي طالب فاشل في رياضيات [البكالوريا] ليسب ويلعن فيثاغورث أو الخوارزمي مثلاً ؛ وعندنا جيوش ممن لا يدركون خطورة تدمير المرجعيات الشرعية ؛ لا عمل لها في مجالسها إلا انتقاص فلان وسب فلان من كبار مرجعيات الأمة .
من الأعاجيب أن أحدنا لا يستطيع أن يجمع في ذهنه عدة أسماء يستقي من خير ما عندهم ، ويتجاوز ما هفت فيه وكأن الناس جعلوا التفرق قدراً يقدسونه ، وأذهانهم سجوناً صغيرة قيدوا فيها من لا يعجبهم فحجبوا فائدته عن الناس .
ما المانع من أن يستقي الإنسان من الأئمة كلهم ، وليكن له منهج واحد يدعمه بصواب كل أحد منهم ، ومتى نخرج من متاهة التعصب؟ وما زلت أصدم حتى اليوم بتلاميذ علم صغار يستقون من ينابيع عقيمة لا تسمع منهم ألفاظ : خطأ وصواب ووهم وتحقيق بل أسهل شيء عندهم التكفير والتضليل والتفسيق و الإخراج من رحمة الله ، والقذف بالناس في الدرك الأسفل من النار ، متى نعلم أنه ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) 24 ومتى نحقق فقه الشافعي رضي الله عنه : "الرجل يقول لصاحبه كفرت و الصواب عندنا أن يقول أخطأت" .
إن خطورة مناهج تدمير المرجعيات أنها تقيم صورة وهمية عن عالم تظنه الصواب وهو ملفوف بالخطأ لفاً .. و كلما ازداد التعصب ازداد الانغلاق . إن الأفكار الصالحة لا يحتاج إلى دفنها بل إلى نشرها في ضياء الشمس و هناك يتحقق القانون القرآني ( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) 25 .
لقد قال تعالى في القرآن الكريم ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) 26، وهذا تصحيح لأفكار الناس عن المرجعية العظمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا الزمان المر فإن العلماء ورثة الأنبياء والدفاع عن مرجعياتهم واجب شرعي ، والدفاع عن المسلم الفرد واجب فكيف بعلماء الأمة الكبار . ولقد حدثني الثقة من الناس أن فلاناً ألف كتاباً سماه ( إسكات الكلب العاوي يوسف القرضاوي ) فيا أمة محمد أيجوز لمسلم أن يقول عن عالم من أكبر مرجعيات المسلمين الفقهية اليوم هذا الكلام 27..
إن بعض الناس يعانون من علل نفسية و أمراض ، وبعضهم يتعصبون تعصباً بغيضاً و العلم ليس فيه كبير و الحق أحق أن يتبع و تنبيه الناس إلى الصواب واجب ولكن التحطيم مرفوض وستبقى كلماتنا وأفكارنا درعاً لكل عالم مخلص يتطاول عليه الجهال .. ساءني أن كثيراً ممن ينتقدون العلامة القرضاوي و يسمونه بالترخص و التشدد ؛ أكثر فقههم في بيوتهم لا يخرج عن فتاويه ، و ساءني أن كثيراً منهم لم يطف بما طاف به و لم يمر بما مر به من تجارب و لا مااحتك به من ظروف الأمة المختلفة في الأوطان و المهاجر و بلاد الغنى و بلاد الفقر و أطوار المحنة و أطوار الرخاء ؛ سمعت من يستهزئ به ليقول : كان الأجدى أن يسمي كتابه الحلال و الحلال في الإسلام لا أن يسميه الحلال والحرام ، والعالم الحق لا يترك اجتهاده لتعصب الجهال و ما المانع أن يكون الدين يسراً وتيسيراً وفي الصحيح ( إن الدين يسر )28 وما خُير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما 29وقال تعالى : ( يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر ) 30 ، و هب أن أحداً لم تعجبه بعض الفتاوى وما كلها بصواب فلا يحرج عليه أحد في الالتزام بها .. و العلم واسع .
و السؤال : ألا يجب أن نوضح الصواب و ننفي ما نظنه الخطأ ، والجواب : يجب ذلك دون تدمير المرجعيات ودون أكل اللحم و دون التحقير لمن كرمه الله بالعلم ، والعلم المجانب للصواب يدفع بالعلم الصواب ..
و من تدمير المرجعيات جملة أيها الأخوة و الأخوات ما يتداوله البعض حول السيرة النبوية من أنها سيرة حربية كلها معارك وغزوات ودماء ، و نقول : ما المانع أن يظل الجهاد في نفوس الناس عارماً قوياً يتجه إلى مواضعه دون طيش و لا حماقات ، ما العيب أن تبقى الأمة ملتزمة بتوجيه المصطفى عليه الصلاة و السلام : ( من لم يغز و لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق ) 31 . ما الجريمة أن يسأل المسلم كل المحافل الدولية وفي غاية التمكن والقوة : لماذا أعطي حق تقرير المصير لتيمور الشرقية و تخرس كل حكومات الأرض عن تدمير وسحق وإبادة وتعذيب وتجويع و قصف شعب الشيشان المسلم .. وفوق ذلك نقول للأخوة الذين يظنون السيرة تاريخاً حربياً عسكريا :ً قد وهمتم يا اخوة الدرب لأن بعضكم من الكسل بحيث لا يدرك بأن في مرجع واحد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر العلامة صلاح الدين المنجد في كتابه :
( معجم ما ألف عن النبي صلى الله عليه وسلم ) ما يزيد عن ألفين و خمسمائة كتاب ورسالة ومرجع عن حياة هذا النبي العظيم ؛ تشمل لا السيرة العسكرية بل كل مناحي ودروب الحياة ، وهذا كله باللغة العربية وحدها فما بالك بباقي لغات الأرض ، و لقد فات أولئك الأخوة أيضاً أن النبي صلى الله عليه و سلم جاء بحضارة ملأت الأرض علماً و خيراً و إيماناً .. و في التاريخ كله لم تستطع القوة عسكرية أن تنشئ حضارة و كل دولة قامت بالقوة العسكرية فإنما هوت تحت مطارق الحركة و التطور و النماء ، و حقاً إن حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و سيرته ما تزال ميداناً فسيحاً لاستقاء الإرشاد و الصواب بل الحق و الإيمان ..
اللهم زدنا بنبيك حباً و اجعلنا من الذين يبنون إذا انصرف الناس إلى التهديم .. من عمل صالحاً فلنفسه و من أساء فعليها .
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى