مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* جبش الاسلام في سمرقند - الشباب والشعوات - بناء الاسلام

اذهب الى الأسفل

 * جبش الاسلام في سمرقند - الشباب والشعوات - بناء الاسلام Empty * جبش الاسلام في سمرقند - الشباب والشعوات - بناء الاسلام

مُساهمة  طارق فتحي الإثنين يناير 24, 2011 3:30 pm

(جيش محمد صلى الله عليه وسلم في سمرقند)
اعداد : طارق فتحي
الحمد لله ثم الحمد لله و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و نشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله و رسوله ؛ عباد الله أوصيكم و نفسي بتقوى الله عز وجل و أحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه و آله و سلَّم و إنَّ من كلامه تعالى قوله : ( قل كلٌ يعمل على شاكلته فَرَبُّكُم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً )1؛ كلٌّ يعمل على شاكلته ؛ أي على ما هو دأبه و طريقه ؛ ما هي شاكلة الأمة المسلمة في البناء الإيماني و النفسي لأبنائها؟ و ما هي الآثار البعيدة لذلك على مستوى الأمة و الدولة و الحضارة ؟
عُمَرُ رضي الله عنه سلبَ النوم منه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين فيموت و هو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة)2؛ هموم الأمة المسلمة امتزجت بروحه و قلبه ، ومرةً بعد جولة ليلية متعبة تفقد فيها الرعية ، جلس ليستريح قليلاً فسمع امرأة تقول لابنتها : قومي إلى اللبن فامذُقيه ، أي زيديه ماءً ؛ قالت البنت : قد نهى عمر عن ذلك ؛ قالت الأم : امذقيه فإن عمر لا يراك ، قالت البنت : يا أماه فأين رب عمر! هذه هي أمة الإسلام حُكَّامُ عَدْ لٍ و رعيةُ التزام ، و علَّم عُمَرُ الخِباءَ بعلامة و عاد إلى أبنائه يخبرهم عن فتاةٍ صالحةٍ تقيةٍ لا يُفرط بها : زوجة صالحة و امرأة تقية وسكنا ، فزوجها ابنه عاصم و بارك الله لهما فكانت لهما ابنة وافرة العقل جميلة الخَلقِِ و الخُلُقْ تزوجها عبد العزيز بن مروان و رزق عبد العزيز من حفيدة ابن الخطاب رجلاً ملأ الدنيا عدلاً! ذلكم هو عمر بن عبد العزيز.
( قل كل يعمل على شاكلته ) صاحب التقوى يبحث عن التقوى و صاحب المال يبحث عن المال ، وشاكلة التقوى في الأسرة المسلمة تمتد في ذراريها ، وقد عاش عمر بن عبد العزيز في شبابه عيشة ترف مدهش و رأى من النعيم ما لم يره أحد ، ولكن شاكلته الأولى تجمعت ثم انبثقت فتدفق الخير و العدل و الأمن و الإيمان.
أما مربيه الأول فكان عالم الأمة عبد الله بن عمر ، وأما أساتذته فأئمة فحول : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، و أنس و السائب و عبادة .. ، ورغم كل ماعاشه من ترف فإن البداية التربوية الأولى حفظته (ومن صحت بدايته صحت نهايته) وقد تأخر يوماً عن الصلاة فسأله مؤدبه صالح ابن كَيْسان عن السببِ فاعتذر بأن مُرجِّلته كانت تُرَجِّل له شعره! فكتب المؤدب بذلك إلى أبيه عبد العزيز ؛ فحلقَ له شعره كله كيلا ينشأ مترهلاً مدللاً سخيفاً وصدق الهادي صلى الله عليه و آله و سلم فيما أخرجه عنهُ ابن حبان إن الله سائلٌ كُلَّ راعٍ عما استرعاه حفِظ أم ضيع حتى يُسألَ الرجلُ عن أهل بيته)3 و تمضي الأيام فإذا بأمر الخلافة العظمى يوكلُ إلى عمرَ بن عبد العزيز فحمله حملاً أضناه و أتعبَ كلَّ من أتى بعدَهُ ، وصارَ حُكمه فضيحة لكل من تولى الأمر بعدَهُ . لقد تجمعتْ شاكلةُ البصماتِ العمريةِ فخرجت كُلُّها في ابن حفيدتِه .
أتته امرأة من أقصى حدود دولته التي امتدت ما بين الصين و فرنسة و سألت عن قصره فدلوها على دار شديدةِ التواضع ، و إذا بالدارِ رجل يُطينُ الجدارَ و امرأةٌ تناولُهُ الطينَ ، قالت لها : ألا تحتجبينَ من هذا الطيان فقالت : إنه أميرُ المؤمنين! وأجيرة الطيان هي فاطمةُ التي قال التاريخُ عنها أنها كانت (زوجةَ خليفة ؛ بنتُ خليفة ؛ أُختُ أربعةِ خلفاء ، وعمةُ خليفتين) . ومرض ابن عبد العزيز و عاده أخو زوجته مَسْلمَة فلما خرج قال لأخته اغسلي قميص أمير المؤمنين فإنه وسخ ، والناس تزوره فلما رَجَع بعد أيامٍ وجد القميص لم يغسل فأعاد القول ، وزاره ثالثة فإذا بأمير المؤمنين ما يزال في قميصه يئن مريضاً متوجعاً ، و أغلظ مَسْـلَمة لأخته الكلام فأحنت رأسها وخرج صوتها من بين دموعها وقالت : والله ماله قميص غيره!!
قد أتعبت يا عمر من بعدك و فضحت لصوص الأمة ؛ وتحقق حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله جعل الحق على لسان عمر و قلبه)4 بل امتد معناه في ابن حفيدته ابن عبد العزيز!
( قلْ كلٌ يعملُ على شاكلَته ) ولعمرَ بن عبد العزيز وِقفات حبس التاريخ فيها أنفاسه ، فما رأى بعد عدلاً ومساواة ولا إحساناً أوإنصافاً يتدفق مثلما تدفق في عهد خامس الراشدين ، و هاكم شاكلةٍ عمريهٍ مذهلةٍ : الإسلام في أوج قوته وراية لا إله إلا الله تمتد في الأرض أسرع من انتشارِ ضوء الصباح ، والدولة الإسلامية أعظم قوة حضارية على وجه الأرض وخليفةٌ واحدٌ في دمشق تنقاد له بلادٌ ممتدة ما بين مشرق الأرض إلى مغربها ، وبعيداً آلاف الأميال عن عاصمة المسلمين وفي ظلمة الليل خرج رجل تقدح عيناه بالشرر يتلفت حوله بحذر حتى طرق أحد الأبواب باحتراس شديد و أعطى كلمة السر ففتح له الباب ؛ فاجتازه إلى غرف دخل من مكان سري في أحدها إلى سراديب مظلمة يضيئها لهب أزرق يضفي ظلالاً مرعبة على المكان!حتى انتهى إلى غرفة صخرية فيها سَدَنَةُ آلهة دميمة.
كان اجتماع مؤامرة حقودة على المسلمين [نموذج مصغر من مؤامرة دول العالم على شعب البوسنة المسلم] ولكنها كانت في سمرقند ، وكان الكهنة يتحدثون بحقد عن المسلمين و دينهم ، وكيف أنهم دخلوا سمرقند فملكوها ، وكانت في جعبة الكهنة خُطَّةُ فتنةٍ خبيثةٍ ولكنهم قرروا إطلاق سهم أخير من جعبتهم ، واختاروا زائرهم الأخير ليكون رسولهم إلى عاصمة الخلافة ؛ فقد سمعوا أن فيها حاكماً عادلاً ملأ عدله الأرض ؛ فوكلوا صاحبهم بحمل الرسالة ؛ خاصة و أنه يتقن العربية ، ومضى الرجل في ديار المسلمين فإذا كل حاضرة من حوا ضرهم أعظم من الأخرى فتمتلئ نفسه خوفاً من لقاء خليفةٍ هو حاكمُ تلك الأقطار العظيمة ، ثم وصل دمشق (سيدة التاريخ وأمل المستقبل ) فخفق قلبه و تصور صعوبة لقاء الخليفة و تحسس رقبته فقد خشي أن يتصرف بطريقة يكون ثمنها رأسه! تذكر الأكاسرة و القياصرةَ و الجبابرةَ و الفراعنةَ ، ثم ذهل ؛ فكيف يقابل خليفةً كلُّ مُلكِ الشاهنشاه الذي كانوا يعظمونه وتخشى بأسه الشعوب لا يبلغ قدر ولاية صغيرة من ولاياته ؛ واضطرب فؤاده بين الخوف على النفس و الخوف من اندثار عقيدة آلهة المعبد الوثني المرعبة ، وتذكر بلاده و الكهنة فتشجع و كلما رأى قصراً خفق قلبه وظنَّ أنه قصر الخليفة ؛ ثم وجد نفسه فجأة مقابل قصرٍ عظيم ما رأى و لا سمع عن مثله ، وكاد يخر على الأرض لذهوله إلا أنه تشجع لما رأى الناس يدخلون ويخرجون فلا يسألهم أحد إلى أين ، وإذا بصحن واسع عظيم أرضه من رخام يلمع كالمرايا بالكاد يرى مَنْ في أوله مَنْ في آخره ، وعلى الأطراف أعمدةٌ شامخةٌ و أقواسٌ مرتفعةٌ وفي المنتصف بركة ماء يتدفق منها الماء عذباً زلالاً ، وإذا بصوت حان جميل كأنه من أنفاس الجنان لا من حناجر أهل الأرض يرتفع مردداً : (الله أكبر الله أكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ؛ أشهد أن لا إله إلا الله ؛ أشهد أن محمداً رسول الله .. ) فإذا بالكل كأن على رؤوسهم الطير .
ما كان ذلك الرجل يعلم أن نبي الأمة صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ ، فإنه من صلَّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرا ؛ ثم سلوا الله لي الوسيلة [ ومحل ذلك إنما يكون بعد الأذان لا عند إقامة الصلاة ] فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله و أرجو أن أكون أنا هو ؛ فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة )5 و تلفت الرجل فإذا بنظام عجيب وإذا بالآلاف يصطفون مثل كتائب جيش كثيف و إذا برجل يتقدمهم فتكون منهم طاعةٌ مدهشةٌ و انضباط عظيم ؛ ثم انفض الجمع و تشجع الرجل فسأل عن الخليفة فقالوا : هو الذي صلى بالناس ؛ أما صليت معنا؟ قال : وما الصلاة؟ فقالوا له : عبادة وطاعة ، والتزام ونظام وترك للفحشاء والمنكر وفضيلة و طهارة ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر)6 ؛ ألست بمسلم؟ قال باضطراب شديد: لا ، وهو يظن أنه سيلقى وحوشاً مثل وحش الصرب ينهالون عليه بالسواطير ؛ فقالوا له باسمين : هداك الله وما دينك ؛ فتلعثم الرجل ، وظنهم سيقتلونه لكنهم شجعوه فقال: أنا على دين كهنة سمرقند ؛ قالوا وما دينهم؟ قال لا أدري ؛ يسجدون للنار! فقالوا له : ومن ربكم؟ قال : أصنام المعبد المخيفة! قالوا : إنَّ نبينا بُعث رحمة للعالمين وقال الله له وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )7 ، وعسى أن يرزقك الله وقومك الهداية! قال : وما الله؟ فقالوا له : ( ربِّ السماواتِ و الأرضِ و ما بينَهما إن كنتم موقنين * لا إله إلا هو يحى و يميتُ ربكم و ربُّ آبائكم الأولين )8 ( وهو الذي في السماء إله و في الأرض إله وهو الحكيم العليم * وتبارك الذي له ملك السماوات و الأرض وما بينهما و عنده علم الساعة و إليه ترجعون )9 ؛ ثم قاموا عنه وقد دلوه إلى الباب الذي يصل به إلى الخليفة .. فظنَّ أنه سيدخل قصراً آخر أعظم وأفخم ؛ فإذا بيتٌ متواضع وامرأة تعجن فلحقهم وقال أتكذبون علي؟ أسألكم عن قصر الخليفة فتدلوني على بيتِ فقيرٍ يُصلح داره بيده و امرأته تعجن ؛ قالوا له : ذاك خليفتنا!!
ولم يصدق الرجل أذنيه ؛ وقال: إني غريب ناشدتكم بما تؤمنون أن تدلوني ؛ فقالوا : حاشا لله أن نكذب عليك ؛ إن الكذب في ديننا كبيرة من الكبائر و نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا أن المؤمن لا يكون كاذباً أبداً10، و جعل الرجل يفرك رأسه بيديه أهذا حلم أم واقع ، تعب الطريق و عناء المهمة أم الحقيقة.
وأحس بتصدع في أفكاره وشعر بجدران المعبد و الآلهة المزيفة و الفراعنة المتجبرين يتهاوى بعضها على بعض فتصبح شظايا تسقط في قعر بئر عميق ووقف الرجل متحيراً فلمحه الخليفة و عَرَف أنه غريب فجلس إليه ينظر في أمره فازدادت دهشة الغريب ولكنه بعد تردد شكا إلى عمر بن عبد العزيز أن قائده قتيبة بن مسلم دخل سمرقند غدراً دون دعوة أحد إلى الإسلام و لا منابذة و لا إعلان .. و أطرق الخليفة العظيم الذي أمر خطباء منابره بأن يذكِّروا الناس كل جمعة بقوله تعالى : ( إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون )11 كي تبقى الأمة متشبثة بحقها إن نسيه الحكام وأطرق الخليفة العظيم قائلاً : والله ما أمرنا نبينا محمدٌ بظلم و لا أجازه لنا ، و إن الله أوجب علينا العدل مع المسلم و غير المسلم ، و دعا الخليفة بورقة كَتب عليها سطرين و ختمها ثم دفعها إلى الرجل ؛ ليذهب بها إلى حاكم سمرقند ، وحمل الرجل الورقة متشككا!ً أتفعل هذه الورقة شيئاً مع قائد عظيم مثل قتيبة؟ ، ولله در قتيبة وأمير قتيبة! وعلم الكهنة فاصفرت وجوههم و تلمسوا رقابهم [حسبوها مكيدةً مثل مكائد عصابات مجلس الإرهاب الذي سموه مجلس الأمن] فما راعهم إلا منادٍ يدعو الناس كلَّهم إلى المسجد و إذا بالقائد العظيم قتيبة يدخل وراء رجل نحيل أجلسه وكهنة المعبد الأكبر بين يديه ، ثم سأل القاضي الكاهنَ بصوت ضعيف : ما قولك ، فقال : إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم دخل بلدنا غدراً من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام ولا طلب جزية ، و التفت القاضي إلى الأمير مستفهماً : ما قولك يا قتيبة؟ فقال قتيبة : إن الحرب خدعة وهذا بلد عظيم أنعم الله به علينا ، وأنقذه بنا من الكفر وأورثه المسلمين ؛ قال القاضي: هل دعوتم أهله إلى الإسلام أو الجزية أو القتال؟ قال قتيبة : لا ولكننا دخلناه مباغتة! قال القاضي : قد أقررتَ يا قتيبة ، والله ما نصر الله هذه الأمة إلا بوفائها بما ائتمنت عليه من عهود الله (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا)12.
يا قتيبة ( ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون )13.
يا قتيبةَ جيش محمد جيش صدق و عهد و وفاء
يا قتيبة جيش محمد ليس جيش احتلال ولا جيش إبادة ولا عدوان ، جيش محمد ليس مثل جيوش الحقد الصليبي السافر ، جيش محمد لا يبيد الحياة ولا الأحياء ، جيش محمد ليس مثل جيوش الكفرة الصرب و الأنذال من قوات التحالف الدولية المتآمرة 14 .
جيش محمد يا قتيبة لا يعتدي على النساء و ينشئ لهنَّ معسكرات الاغتصاب ..
جيش محمد يا قتيبة لا يعطي العهد للأبرياء الآمنين ثم يحصدهم بالرشاشات أو يذبحهم ذبح النعاج بالسواطير ، جيش محمد لا يضع المسدسات في رؤوس الأطفال ليفجرها ..
جيش محمد و قادة جيشه لا يقررون ملاذات آمنة لشعب بائس مسكين ثم يتعاورون عليها ذئاباً ووحوشاً بشرية لا تمل من شرب الدماء ..
جيش محمد لا يغير على المدنيين ولا على المستشفيات ولا يقتل العزل و النساء و الأطفال ..
جيش محمد يا قتيبة إذا وعد وفى وإذا حدَّث صدق وإذا ائتمن أدى الأمانة ولو لقي في ذلك الأهوال والحتوف ..
يا قتيبة : حكمت بخروج المسلمين من البلد وأن يُرَدَّ إلى أهله و يُدْعَوا إلى أحكام الإسلام ، ولم يصدق أحد أن هذا سيحصل ، و لكن ما مضت إلا ساعات فإذا بالجوِّ يرتجف من صليل السلاح .. جيش قتيبة ينسحب .. ونظر الكاهن الأكبر إلى أتباعه فنكَسوا رؤوسهم ونظر إلى رسوله إلى الخليفة فوجده يرتجف بشدة ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله .. وكأنما دبت بالكهنة الحياة بعدموت .. فصرخوا في أتباعهم : أن أدركوا جيش محمد وقولوا لقتيبةَ أن يعود ..
يا جند محمد ما شهدت الأرض مثل عدلكم وإنصافكم .. عودوا إلينا .. ما عدتم وحدكم المسلمون .. و ما محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لكم وحدكم فهو نبينا كذلك ، و إننا لنشهد جميعاً أنه لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله. وصدق تعالى : ( يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير ) 15.
تذكرة للشباب في وجه الشهوات
الحمد لله حق حمده و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و نشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتنَّ إلا و أنتم مسلمون .
أما بعد ، فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه : (وأما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى)1 ؛ ذكر الإمام القرطبي في تفسيره أن الآية نزلت في مصعب بن عمير ؛ وقى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بنفسه يوم أُحُدْ حتى تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقصُ في جوفه وهي السهام ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطاً قال : (عند الله أحتسبك) و قال لأصحابه : (لقد رأيته و عليه بردان ما تُعْرَفُ قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب) 2.
لماذا حديث نهي النفس عن الهوى اليوم .. الشباب يقولون :تتحدث عن الأسرة و نحن في جبهات مشتعلة مع نفوسنا في وجه طوفان فساد من حولنا .. أفما من تذكرة؟ فإنَّا نخشى أن لا نصل إلى الأسرة التي تتحدث عنها إلا و قد تصدعت قلوبنا وخارت عزائمنا ، وتبددت قوة نفوسنا فما يبقى منا قليلٌ و لا كثير .. و صدقوا فإن أهل الفساد لا يدعونهم حتى يفتنوهم عن دينهم ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) 3 ، وصدقوا فإن أهل الشهوات لا يدعونهم حتى ينحرفوا ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ) 4 ، وفي طريق السالك أئمة هدى كلٌّ منهم له جولات في فقه النفوس ، ومنهم الإمام الجيلاني قدس الله سره ، وهو يقول ما مؤداه : "كل شئ تعتمد عليه وتثق به دون الله فهو صنمك ، لا ينفعك توحيد اللسان مع شرك القلب ؛ لا تنفعك طهارة القالب مع نجاسة القلب ؛ الموحد يضني شيطانه و المشرك يضنيه شيطانه ، الإخلاص لبُّ الأقوال و الأفعال لأنها إذا خلت منه كانت قِشراً بلا لب ، القشر لا يصلح إلا للنار ، اسمع كلامي و اعمل به فإنه يخمد نار طمعك و يكسر شوكة نفسك ، لا تحضر موضعاً تثور فيه نار طبعك فيخرب بيت دينك و إيمانك ، يثور الطبع و الهوى و الشيطان فيذهب بدينك و إيمانك و إيقانك ، لا تسمع كلام المنافقين المتصنعين المزخرفين ، العلم يؤخذ من أفواه رجال الحق ، لو كان لك خاطرٌ صحيح عرفتهم و صحبتهم ، إنما يصح الخاطر إذا تنور القلب بمعرفة الله عز و جل ، لا تسكن لخاطرك ؛ حتى تصحَّ المعرفة و يتبين لك منه الخير و الصحة ؛غضَّ بصرك عن المحارم و أمسك نفسك عن الشهوات وعود نفسك أكل الحلال و احفظ باطنك بالمراقبة لله عز وجل و ظاهرك باتباع السنة و قد صار لك خاطر صحيح مصيب وتصح لك المعرفة بالله عز وجل".( يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا * ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلاً * و إن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً * ولولا إن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) 5 ، ولا يبخل علينا الإمام ابن القيم رحمه الله بما أكرمه الله به من علم آفات النفوس فيقول لك : " دافع الخطرةَ فإن لم تفعل صارت شهوة فحاربها فإن لم تفعل صارت عزيمة و همة فإن لم تدافعها صارت فعلاً فإن لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها ، واعلم إنَّ مبدأ كل علم اختياري هو الخواطر و الأفكار فإنها توجب التصورات و التصورات تدعو إلى الإرادات و الإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر و الأفكار و فسادها بفسادها ، واعلم أنَّ الخطرات و الوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيؤديها إلى التذكر ؛ فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة فتؤديها إلى الجوارح و العمل فتستحكم فتصير عادة فرَدُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها و تمامها " . ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين و عن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد * و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت عنه تحيد * ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد * و جاءت كل نفس معها سآئق وشهيد * لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطآءك فبصرك اليوم حديد )6 ؛ ذكر العلامة المناوي في الفتح القدير نقلاً عن الشيخ ابن عربي رحمه الله قوله : "كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به و ما يفعلونه و يقيدونه في دفتر ، فإذا كان بعد العشاء حاسبوا نفوسهم و أحضروا دفترهم و نظروا فيما صدر منهم من قول و عمل و قابلوا كلاً بما يستحقه ، إن استحق استغفاراً استغفروا أو التوبة تابوا أو شكراً شكروا ثم ينامون ، فزدنا عليهم في هذا الباب الخواطر فكنا نقيد ما نحدث به نفوسنا و نهم به و نحاسبها " . فرحمه الله ما كان أحزمه في حساب نفسه ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك * كلا بل تكذبون بالدين * و إنَّ عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) 7 ثم يعلمك الإمام المحاسبي رحمه الله مما علمه الله فيقول لك : " و اعلم أن كل عقل لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو عقل مكيد : أي مغلوب بالشهوة : إيثار الطاعة على المعصية ، و إيثار العلم على الجهل ، وإيثار الدين على الدنيا " . ( إنَّ هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون وراءهم يوماً ثقيلاً * نحن خلقناهم و شددنا أسرهم و إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً * إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى الله سبيلاً ) 8 ، و بصرت رابعة رحمها الله بك بكاد نفسك تجمح فأرسلت لك بيتين لها يذكرانك :
تعصي الله و أنت تظهر حبـه هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حُبَّكَ صادقا ً لأطعته إنَّ المُحٍبُّ لمن يحبُّ يطيع
( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم )9.
ورآك يا ابن الإسلام فقيه الأندلس الإمام ابن حزم ، و قد كانت في نفسك وشوشات الشباب و نداءات الهوى فخشي عليك من شهوة طاغية يفلسفها لك شيطان خبيث يرديك ؛ فكتب إليك يذكر لك قصة فتى حبس مع ذاتِ جمال يوما فكان منه ما جعله من أصحاب يوسف عليه السلام! يقول ابن حزم بأن شابا من أهل قرطبة و كان آية في الحسن زاهداً عابداً ؛ زار أخاً له في الله يوماً فدعاه إلى المبيت عنده ، ثم اضطر صاحب البيت للخروج فذهب على أن يعود مسرعاً ؛ فعرض له ما أخره ؛ فأغلق الحراس أبواب الدروب ؛ فما استطاع الرجوع إلى منزله .. فلما علمت الزوجة فوات الوقت و أنه لا يمكن لزوجها أن يرجع .. تزينت وتعطرت وقادها الشيطان ، وكانت جميلة فاتنة فبرزت إلى الشاب الصالح ودعته إلى نفسها ، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل ؛ فضعفت نفسه و كاد يقع فيما حرَّم الله .. فرجع إلى نفسه فألجمها .. والمرأة شديدة الإغواء له .. ثم وصل إلى حد لم يعد يستطيع أن يصبر فيه .. وما بقي من مهرب وغلب خوف الله عز وجل قلبه ؛ فمد أُصْبُعَهُ إلى السراج يقول : يا نفس إن كنت تصبرين على مثل هذا يوم الحساب فافعلي ما شئت ؛ فاحترقت أُصْبُعَهُ و أذهل المرأة عن نفسها . ( و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشيِّ يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا * وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) 10 ، ورآكِ ابن القيم يا ابنة الإسلام ، رآكِ والأرض تدك من حولك ليتحطم فيك الخلق و الدين .. يريد الخبثاء أن يحيلوك مادة للدعاية وسلعة للتجارة ورقيقاً أبيض .. يريدون أن يخدعوك فَيُغَلَّفُ لك الفجور بالأدب و الانحراف بالفن و الانغماس في الطين و الوحل باسم الواقع .. ووراءهم جيوش من مخربين و مفكرين ، نهاية ما عندهم إسلام بلا التزام .. اسم بلا مسمى .. جسد بلا روح .. أمة بلا فضيلة .. حياة بلا فطرة .. فكر يسكر و يعربد به الماركسي و الملحد و الوجودي و المتصهين و المتغرب .. فكر هو نتاج الصليبية الدولية الحاقدة ، والماسونية العالمية الخبيثة و أخلاق يهود المنحطة ؛ فكر يحطم الدين و الخلق و الإيمان والحياء .. فكر لا يعرف خالقاً و لا رباً و لا بعثاً و لا نشوراً ، وانظروا في المدارس الفكرية التي تحيط بكم في كل بلاد المسلمين فكل فكر رأيتموه قفز على ما قرره وأثبته كتاب الله تعالى فهو فكر مخرب وكم من رجل أو امرأة يتحدثون ويتحدثون عن الإسلام ألف عام و عام ما تسمع من كلامهم دعوة إلى خشية من هذا الخالق العظيم ولا دعوة للحياء من رب هذا الوجود و لا دعوة إلى أن يقول العباد كلهم : لا إله إلا الله في المحراب والمسجد ؛ في السياسة و الاقتصاد ؛ في المجتمع و الحضارة ، وفي كل جنبات الحياة . . يتفلسفون و يتشدقون و يتفيقهون و يخربون و يدمرون ثم يحشرون أنفسهم حشرا تحت ألوية الدعاة و المفكرين و المسلمين .. ماذا ينشرون؟ ينشرون فكراً فلسفته طرح الانهزام في كل صف و الإرجاف في كل نادٍ و الدس الخبيث الماكر في الدرس و اللقاء و الندوة ، رآكِ ابن القيم يا ابنة الإسلام فما هاب كل مكرهم فإنَّ الحقَّ أبلج لا يخفى على أحد .. فانصرف عنهم ليخاطب فطرة فطرها الله فيكِ .. يخاطبك لا خطاب المتفلسفين و المتفيهقين و المتفيهقات .. بل حديث الإيمان و القلب و الروح .. يذكر لك قصة صغيرة ؛ لكِ فيها يا ابنة الإيمان عبرة و أي عبرة نقلها لكِ من كلام الواعظ ابن الجوزي رحمه الله ، فافتحي قلبك لمعناها .. وذلك أن امرأة جميلة كانت بمكة وكان لها زوج فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها : أترى أحداً يرى هذا الوجه و لا يفتتن به؟ قال : نعم ؛ قالت : من؟ قال : عبيد الله بن عمير [وكان من سادات عباد و زهاد زمانه] قالت : فإذن لي فيه فلأفتننه ؛ قال : قد أذنت لك. قال : فأتته كالمستفتية فوقف معها في ناحية من المسجد الحرام فأسفرت عن وجهٍ مثل فلقة القمر حسناً وجمالاً و بهاءً ؛ فقال لها : يا أمة الله استتري ، فقالت : إني قد فتنت بك ، قال : إني سائلك عن شيء فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك ، قالت : لا تسألني عن شيء إلا صدقتك ، قال : أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرُّك أن أقضي لك هذه الحاجة ؛ قالت : اللهم لا ، قال : صدقت ، قال : فلو دخلت قبرك و أجلست للمساءلة أكان يسرُّك أني قضيتها لك ؛ قالت : اللهم لا ، قال : صدقت ، قال : فلو أن الناس أعطوا كتبهم و لا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك أكان يسرُّك أني أقضيها لك ، قالت : اللهم لا ، قال : صدقت ، قال : فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين تنجين أولا تنجين أكان يسرك أني قضيتها لك ، قالت : اللهم لا ، قال : صدقت ، قال : فلو جيء بالميزان و جيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك ، قالت : اللهم لا ، قال صدقت ، قال : فلو و قفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك ، قالت: اللهم لا ، قال : صدقت ، ثم قال لها: اتقي الله فقد أنعم عليك و أحسن إليك . قال : فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت : أنت بطال ونحن بطالون فأقبلت على الصلاة و الصوم والعبادة ؛ فكان زوجها يقول: مالي و لعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي ؛ كانت في كل ليلة عروساً فصيرها راهبة (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات و الصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيما)11. . وقد فتن رجل بامرأة فراودها عن نفسها فتمنعت ؛ ثم ضاق ما بيدها و صارت في حال شديدة من الفقر فأتاها فقالت له : بشرط أن نكون في مكان لا يرانا فيه أحد .. فخرج بها إلى الصحراء .. فلما همَّ بها قالت له : أما وعدتني أن لا يرانا أحد فقال لها : وكيف يرانا أحد وما ثمة إلا الكواكب .. فشهقت باكية وقالت : يا غافل فأين مكوكبها .. أين الحق عز وجل .. أين خالقها وبارئها ؛ فقام مذعوراً وأناب إلى الله تعالى .. ويقول العلامة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله موصياً : إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله فإن لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال فإن لم ترجع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس فإذا لم ترجع فاعلم أنك في تلك الساعة انقلبت إلى حيوان . وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول : ( و الله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أُصبعه في اليم فلينظر بما يرجع ) 12 . اللهم إنَّا نعوذ بك من منكرات الأخلاق و الأعمال و الأهواء ، اللهم إنَّا نسألك حبك و حب من يحبك و العمل الذي يبلغنا حبك ، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من نفوسنا و أهلينا ومن الماء البارد على الظمأ ، اللهم إنَّا نسألك موجبات رحمتك و عزائم مغفرتك و السلامة من كل إثم و الغنيمة من كل بر و الفوز بالجنة و النجاة من النار من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ..

المسجد: القاعدة المادية لبناء الأمة المسلم
الحمد لله أحمده و أستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ؛ أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة. من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا ، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ أن يحضَّهُ على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله. أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن من كلامه تعالى قولَه: (إنما يعمُرُ مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )1.
من المسجد انطلقت الأمة المسلمة لتملأ الحياة سعادة وتوازنا وخيرا ، وقد كان المسجد أول مؤسسة أقيمت في الدولة المسلمة بعد الهجرة النبوية وشارك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في بنائه مع أصحابه وهم يرتجزون كما ذكر البخاري في صحيحه 2:
اللهم انه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة
والمسجد يوم بني كان قلب المجتمع المسلم ودماغه ، وهو يعكس في كل عصر مستوى التفاعل بين المسلمين والعقيدة والحياة ، فإن رأيت حيوية ودأبا وشمولية في دور المسجد فاعلم أن الأمة بخير وإن رأيت برودة وفتورا وانكماشا ومحدودية فاعلم أن في حياة المسلمين ثغرة واسعة ونقصا في إدراك دور مؤسساتهم ومعاقد ثباتهم وتوازنهم.
ومما يبين أهمية دور المسجد ؛ الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم  سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى (يستند على غيره لشدة ضعفه) بين الرجلين حتى يقام في الصف)3 . ومن فاتته تربية المسجد رأيت في التزامه ثغرات واسعة لا تخفى وجماع الخير في ارتياد المساجد. ويذكرنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بثمار ذلك فيقول: من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة وأخا مستفادا وعلما مستطرفا ورحمة منتظرة وكلمة تدله على هدى أو تردعه عن ردى وترك الذنوب حياء أو خشية.
بل إن تراكم الخير عند مرتاد المسجد كفيل بأن يجرف ويبعد عنه الذنوب. وقد أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله  قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، قالوا: بلى يا رسول الله ؛ قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ؛ فذلكم الرباط4 . بل إن انحسار دور المسجد أدى إلى آفات عظيمة أصابت المسلمين منذ قرون. فقد تشتتت قواهم وتباينت أفكارهم وكلت عزائمهم وتضاربت جهودهم ؛كما قال شاعرهم5 :

كل فرد فينا إمام ولكـ ـنَّ جميع الأفراد دون إمام

ولِما رآه من هزال الفهم لدور المسجد صَدَعَ أديب القرآن الرافعيُ رحمه الله بحقيقة دور المسجد فقال: (فالمسجد في حقيقته موضع الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع ؛ هو فكر واحد لكل الرؤوس ، ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل وكما يُشَقُّ النهر فتقف الأرض عند شاطئيه لا تتقدم ؛ يقام المسجد فتقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله) ويتابع فيقول: (فما المسجد بناءً ولا مكانا كغيره من البناء والمكان ؛ بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب فان الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها ، وهذه كلها يمحوها المسجد ، إذ يجمع الناس مرارا في كل يوم على سلامة الصدر وبراءة القلب وروحانية النفس ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء ؛ فكأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخول المسجد)6.
فإن سألت عن أسباب التشرذم بين المسلمين ، قلت لك: ضياع فقههم لدور المسجد ، وإن حيرتك كثرة خلافاتهم لَفَتُّ نظرك إلى تفريطهم بالقيام برسالة المسجد ، وإن أذهلك التباين الشديد في آراء كثيرين منهم وتضارب أفكارهم ، وبحثتَ عن حل فما أنت بواجد خيرا من المسجد ، وإن أردت معالجة العلل وبناء النفوس وتربية الأمة وحمل العقيدة فعليك بالمسجد ، وإن آذتك الأنانية الطاغية في الحياة والانهماك في الشهوات ، والجفاء عن الخلق والأدب والدين ، فاعلم أن بداية الإصلاح من المسجد ؛ لا بالحفاظ على جدرانه ومعانيه مفقودة ، ولا بتزيينه والقلوب خواء ، ولا بملئه بأجسامنا والنفوس معلولة لا تعشق إلا متاع الحياة ، بل بإعطائه حقه فيكون هو الفكر الواحد لكل الرؤوس.
إن الإنسان الفرد قد لا يثمر فيكون صفرا في حسابات الحياة ، وألف صفر ما كانت لتساوي إلا صفرا ، فإذا اجتمعت إلى الواحد كانت ذات قيمة هائلة ؛ لا تدع سبيل خير إلا وتناله ، ولا سبيل أذى إلا وتبعده ، والواحد هنا ليس رقما رياضيا مجردا ، بل فكراً إيمانياً مُوحِداً يجمعنا فنحقق من خلاله أمر الله تعالىSadواعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)7 ، وننطلق من خلال حديث الهادي  : (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا)8 .
فإن أتى من يريد أن يكون لوحده بعيدا عن الجماعة منزويا باهتماماته وأفكاره ، مترفعا عن إخوانه ؛ يظن أنه يحقق بذلك الفكر الواحد ؛ قلنا له لعلك كسور عشرية اجتماع الأصفار إليها يزيد ضعفها.. فان أصر أنه الواحد رغم بعده عن إخوانه قلنا له: مالنا بد من مصارحتك بفقه عمر علمه للناس بعدما تلقاه من المعلم الهادي  إذ يقول: (عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقَة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ؛ من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة…)9 حديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم من طرق صحيحة ، ومن يفقه هذا تفتح له أبواب النعم فيعرف أنها لشدة قربها تكاد تخفى ، فيرفع يديه يدعو ويقول: (اللهم عرفنا نعمك بدوامها ولا تعرفنا نعمك بزوالها) ، وكما يقول الإمام أحمد رحمه الله: (قبيح على من أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي معتمدا على غيره) ، وقبيح بالمسلم أن لا يدري موقعه في منظومة عقيدة توحيدية مذهلة يكاد لا يحس بها لشدة قربها فيذكره بها رجل دخل في الإسلام بعد أن كان من أقطاب مناهج الإضلال في الأرض ، ثم عاد إلى الله وقام يصلي ، فوجد أن (الصلاة تربط الإنسان بالخالق سبحانه وتعالى ثم تربطه كذلك بالبشر جميعا فإن قِبلات جميعِ مساجد العالم تشكل حول الأرض دوائر متحدة المركز ترمز إلى وحدانية الله ، وتتغير مواقيت الصلاة بتغير خطوط الطول ليكون هناك في كل لحظة جبهة تسجدُ ، وأخرى ترفع من السجود في موجةٍ عظيمة من العبادة تتدفق بلا انقطاع في أرجاء الأرض)10. وهكذا في كل عبادة وطاعة ينطلق المسجد مثل نهر تقف الآفات عند شاطئيه لا تستطيع تجاوزه ، ويحمل الحياة إلى الأرض العطشى في ظلال عقيدة التوحيد ، ليكون المؤمنون يدا واحدة وقلبا واحدا وروحا واحدة في هدير إيماني عظيم غايته (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) 11.
وهذا الأمر يشترك فيه كل مؤمن رجلا كان أو امرأة ، وقد عجب بعض الاخوة من دعوتي النساء إلى حضور خطبة الجمعة في المساجد وقالوا: إن صلاة المرأة في بيتها خير لها كما ورد في الحديث الشريف12. وهذا ما نحترمه ونجله إلا أن لنا فقها في الموضوع نعرضه ، ففي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي  قال: (إذا استأذن أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)13، وقد كان لابن عمر ابن فاته الفقه ، فقال: (إنا لنمنعهن) ، فذكر أن أباه (غضب غضبا شديدا)14 ، وذكر أنه قاطعه حتى مات لسوء أدبه مع حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحن نؤكد أن على المسلم رجلا أو امرأة أن يعطي كل ذي حق حقه ، فيعطي البيت حقه والمسجد حقه ، بل حتى الطرقات يجب أن تعطى حقها من الآداب الإسلامية من غض البصر وكف الأذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن الحديث فيه فقه واسع ، فصلاة الجمعة ليست بواجبة على النساء اتفاقا وأبقي المجال فيه مفتوحا لسبب عظيم ، فكلكم يعلم أن الجهاد فرض كفاية على الأمة فإن دهم العدو داراً للمسلمين وجب النفير على الجميع ، فإن استباح الحمى لم يؤذن لأحد بقعود فيخرج لصد غارة العدو الحر والعبد والمرأة والرجل والصغير والكبير ولا يلزم أحدا أخذ إذن من أحد ، وعندما تصبح الأمة المسلمة في ضعف فإن العلاج ليس في الانسحاب من معركة الحياة بل في الاقتحام ؛ بل في الاستنفار ، والذي أعتقده أن الأمة المسلمة ما مرت في كل تاريخها بمثل ما تمر به اليوم من كيد وظلم واستعمار وتدمير، بل إن الدم المسلم أصبح أرخص من دم الذباب.. ومن لم يصدق فليسأل عما تفعله جيوش الإلحاد في غروزني ؛ من لم يصدق فليسأل عما أريق من دماء المسلمين في البوسنة15 ، فليسأل عن معسكرات الاغتصاب الصربية الحاقدة وليسأل عن معتقلات الأطفال في فلسطين ، وليسأل عن جراح الاخوة والأخوات في جنوب لبنان ... فليسأل عن ضياع أجيال من أبناء وبنات المسلمين.
أفلا يستدعي كل هذا الاستنفار لا للحرب بل للتربية ، لا للقتال بل للبناء ، وفي نفس الوقت أفلا يحس المسلمون بمدى تخلفهم في فقه الحياة بل فقه الدين نفسه! متى يعلمون كما قالت أستاذة فاضلة منذ أيام: (أن التربية تحتاج إلى أرقى الملكات والإمكانات والقدرات) ، وكثيرون من الرجال يقولون نحن نفقه نساءنا وكثيرون منهم يحتاجون إلى تفقيه ، إن الأمر ليس بهزل أيها الناس. الأمة المسلمة من المحيط إلى المحيط تحتاج إلى استنفار تربوي وما لم تكن المرأة في الخط الأول في فقه الدين والحياة ... فلن يخرج من تحت يدها إلا جهلة ضعفاء ، وأقول لكم بصراحة: أن المجتمعات المسلمة تعيش ما يمكن أن نسميه انفصاما في الشخصية على الصعيد الجماعي ؛ فأفكار الرجال في واد وأفكار النساء في واد ، أفكار المثقفين المسلمين في واد وأفكار الآخرين في واد ، وكل فرقة عندها سلبيات تخصها فهناك من يمر فقهه بكل سلبيات عصور الضعف ومنهم من فتن بكل شارد ووارد ، ومنهم من فقد المحاكمة الصحيحة ومنهم من يرقع الأمور ترقيعا وكل هذا عاقبته وخيمة ، وأحد ضرورات المسجد بناء الفكر الموحِدِ الموحَدِ الذي يتناصح فيه الجميع رجالا أو نساء في ظلال دوحة إيمانية مباركة.
ألف وأربعمائة عام مضت ومازال في المسلمين من يطلق زوجته مثل ذلك الرجل الجهول الذي أخرج النسائي قصته لما (طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام عليه الصلاة والسلام غضبانا ثم قال: أيُلعَبُ بكتاب الله عز وجل وأنا بين أظهركم ، حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله!)16 لما رأى من شدة غضب رسول الله. ومثل هذه المشاكل وأمثالها ليس حلها في أسرة أو اثنتين تتقيان الله بل في فكر جماعي موحد ينسف متكئات أمثال أولئك الجهال ، وبداية نسف الجهل تربية شاملة تفهم الإسلام بشموله وتوازنه وأبعاده فتبعد عنه الأمة عوامل الخلل والإرباك ، ولرب قائل يقول: نخشى من الفساد والاختلاط ، ونقول هذا كلام عام مجمل غير واضح ؛ فإن الظلمة هي مظنة العفن والآفات ، وضياء الشمس يقتل من يحملون الأذى ، وما لم تتدرب الأمة المسلمة على اقتحام الحياة عمليا مع الحفاظ على دينها وعقيدتها وخلقها فان مصيرا بائسا ينتظرها ، و إذا لم يستطع رجال ونساء أمة لا اله إلا الله أن يحافظوا على تقواهم إذا أتوا إلى المسجد ؛ فخير لمثل هذه الأمة أن تحفر قبرها بيدها فبطن الأرض خير لها من ظهرها ، واحتمال صدور سلبيات فردية لا يجوز أن يلغي فكرة صحيحة ، والتربية العملية هي باب الثبات والوقاية والفلاح ، والعقيدة التي تطالب أتباعها في كل ركعة أن يقولوا (إياك نعبد وإياك نستعين) لا تفرق بين رجل وامرأة بل تنأى بالجميع عن الفردية والانزواء ؛ ليكون الجميع في قافلة الإيمان متجهين إلى الله تعالى قائلين (إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضآلين). آمين.
اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم رجالا ونساء وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما ولا تخزنا يوم يبعثون.
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى