مـنـتـديــات الــبـــاحـــث
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

* كلام عن السلطة

اذهب الى الأسفل

* كلام عن السلطة Empty * كلام عن السلطة

مُساهمة  طارق فتحي الثلاثاء أبريل 10, 2012 6:29 pm

أكذوبة أن الشعوب وحدها تصنع تاريخها :
ليس صحيحاً أن الشعوب تحتشد بنفسها دون قائد يقودها ويوجه مسيرتها، فهذا لم يحدث قط. إذ لابد من وجود من ينظم صفوفها، ويحدد لها اتجاه المسيرة، ويستنهض الهمم ويحشد الطاقات . وتاريخ الأمم يصنعه الزعماء والأبطال. وهو تاريخ يتمثل فى حركة صعود وهبوط تكون رهناً بوجود القائد أو غيابه، فالأمم باقية على أية حال. ولكن ما يفسر حدوث الثورات والانتفاضات والصراعات والانتصارات، هو ظهور الزعيم القائد، وما يفسر هوان الأمم وانكسارها هو غياب ذلك الزعيم القادر الذى يأخذ بيدها بعد أن يكسر يد وعنق المستبد، سواء أكان دخيلاً مستعمراً يجثم على أنفاس الأمة، أو كان أحد أبنائها المارقين الذى استبد بها استناداً إلى شرعية زائفة. وما من شك فى أن الشعوب هي التي تبنى وتبادر بالأعمال وحمل المشقة والتبعات، ولكن لابد من تفعيل قوى هذه الشعوب بقائد حاذق، بدونه لا فعالية لهذه الشعوب .
والعلاقة بين دوري الزعيم والأمة لا محل فيها لتفاضل دور على الآخر، وإنما العلاقة بين الدورين علاقة عضوية. فها هي دولة الصهاينة التى لم يكن لها أصلاً شعب محدد الهوية ذو ثقافة موحدة وعرق واحد. بل تجمع اليهود من بلدان شتى، ويتحدثون لغات مختلفة، وثقافاتهم متباينة، ولا يجمع هذا الشتات سوى الانتماء إلى دين، دين محرَّف عبث به حاخامات اليهود بأصوله فأصبح زيفاً وبهتاناً. ثم توفر لهذه الشعوب الشتات زعماء وقادة فعَّلوا أدوار هذه الأمة المخلَّطة، وأصبحوا الآن دولة قوية تسحق أعداءها بالأحذية.
وإذ ثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن تاريخ الأمم من صنع الزعماء والقادة، تبرز الضرورة القصوى لحسن اختيار من يتولى قيادة الأمة من الحكام، إذ إن حسن اختيار الحاكم هو الطريق الوحيد لصلاح أحوال البلاد والعباد الذى يتحدد به مصير الأمة، إما إلى رفعة، وإما إلى بوار. الأمر الذى يصبح معه هذا الاختيار هدفاً يتعين على الأمة كافة أن تحسن تحديده وإن بذلت فى سبيله الدم والأرواح، ولا يجوز بأي حال أن تنصرف همة الأمة بعيداً عن بلوغ هذا الهدف بدعوى طاعة أولى الأمر، أو قدسية الملك أو أبوة السلطان، أو عزة شيخ القبيلة، أو التماس السلامة وطلب الأمن والأمان وحقن الدماء، أو تجنب فساد أحوال العباد بمناهضة ولى الأمر وإن فسق وظلم. ويجب أن يعلم الناس أن من الشرف وعلو الهمة التصدي لمن يسلب الأمة إرادتها أو ينتهك قوانينها، أو يزعم العلو عليها، أو يتلاعب بحقوق الناس تسترا وراء المصالح العليا، أو دعاوى صوت المعركة الذى لا ينبغي أن يعلو عليه شئ، أو يصادم إرادة الجماهير بدعوى اعتبارات الموازين الدولية والسياسية العليا، وكلها أمور تتطلب وعى الشعب واستنارته لكشف بطلانها، وصدق عزيمة على النضال لنيل حقوقه. يقول أفلاطون للناس: "إن معظم الأدواء الاجتماعية والسياسية التى منها تقاسون إنما هي أمور يسهل عليكم التصرف فيها، لو أنكم أوتيتم الإرادة والشجاعة اللازمتين لتغييرها. فأنتم تستطيعون أن تعيشوا بطريقة أخرى أكثر حكمة إن آثرتم أن تقتلوا الأمر تفكيراً وبحثاً، وتكتشفوا بالدراسة كنهه، فأنتم لا تشعرون بما تملكون من قوة"(1).
وليس يخفى أهمية الدور الذى يضطلع به الملوك، على اعتبار أنه فعلٌ تستجيب له الأمة فى صورة رد فعل، وقد قال بهذا كثيرون من مفكري فجر النهضة العربية الحديثة أمثال رفاعة رافع الطهطاوى، وعبد الرحمن الكواكبى، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وخير الدين التونسي، وأديب إسحاق، غير أن جهودهم لم تثمر الثمار المرجوة وذلك فى ما نرى بسبب تضييق المستبدين على محاولات التنوير والتوعية التى كانت تظهر من حين لآخر، وبسبب الأمية التى حالت دون انتفاع الأمة بآراء هؤلاء المفكرين، فإن أمية الشعوب هي الجدار الواقي الذي يحمى المستبد، إذ تبطل عقول الناس، وتمنع فعالية جهود التنوير التى يحاول بذلها المثقفون الأشراف.
يقول خير الدين التونسي (1825 – 1889 م): "إن سعادة الممالك وشقاوتها فى أمورها الدنيوية إنما تكون بمقدار ما تيسر لملوكها من العلم بكليات السياسة والقدرة على القيام بها وبقدر مالها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها" (2   وبذكاء شديد يعزى خير الدين التونسي "توسيع دوائر العلوم والعرفان وتمهيد طرق الثروة من الزراعة والتجارة وترويج سائر الصناعات ونفى أسباب البطالة إلى حسن الإمارة المتولد منه الأمن، المتولد من الأمل، المتولد منه إتقان العمل) كما يرى أن (الأمم الأوروباوية لما ثبت عندها بالتجارب أن إطلاق أيدي الملوك ورجال دولهم بالتصرف فى سياسة المملكة دون قيد، مجلبة للظلم الناشئ عنه خراب الممالك، حسبما تحققوا من ذلك بالاطلاع على أسباب التقدم والتأخر فى الأمم الماضية، جزموا بلزوم مشاركة أهل الحل والعقد فى كليات السياسة، ومع جعل المسؤولية فى إدارة المملكة على الوزراء المباشرين، ويلزم تأسيس القوانين المتنوعة عندهم إلى نوعين : أحدهما قوانين الحقوق المرعية بين الدولة والرعية، والثاني قوانين حقوق الأهالي فى ما بينهم" .(3)

ألم تر إلى الأمة تكون خاملة بلا ذِكر، والشعب كسول بلا همة، والوهن والهوان يعمان الآفاق، وفجأة يبرز قائد أمين مخلص مقتدر، فيأخذ بيد هذه الأمة، على ما هي عليه من مذلة وضعف، ويرقى بها درجات الرفعة والقوة، مع أن الأمة لم تتغير والناس لم تتبدل. ولكن جاء القائد والزعيم الذي يحشد القوى، ويشحذ الهمم فتنهض به الأمة، وينهض هو بها. وحسبك النظر إلى وقائع التاريخ، أي تاريخ، في أي مكان وزمان، ترى مصداق ذلك من نهضات الأمم أو عثراتها .
واذكر محمد على باشا الذى قاد مصر من ظلام عصور التخلف، وبنى لها قوة عسكرية وعلمية وتعليمية، إذ شرع فى تحديث البلاد على هدى تقدُّم الغرب الذى اكتشفه المصريون نتيجة الحملة الفرنسية التى كانت ذات هدف استعماري محض، ولكن كان من نتائجها – غير المقصودة – تنبيه المصريين إلى حضارة الغرب .
ولم يهدف الفرنسيون قط إلى تمدين مصر – كما زعموا – فالأمر يشبه الأثر الذى تركته الحملات الصليبية على الصليبيين فى الغرب. إذ أثمر احتكاك الغرب بالشرق اكتشاف حضارة المسلمين، وهو هدف غير مقصود أيضاً. وتأسًّى الغرب آنذاك بالمسلمين، ابتداءً من تربية اللحية والمداومة على الاستحمام (إذ كانوا يتباهون بعدم مساس الماء لأجسادهم مدة طويلة)، وانتهاءً بالاهتمام بالعلم والتنوير. وكان من الممكن وقوف الأمر عند حد إصابة المصريين بالدهشة، وهى أولى درجات التنبيه. غير أن جهود محمد على والبعثات التى أرسلها إلى فرنسا وإيطاليا أتت أكلها ضعفين. غير أن الأمر تبدل بعد موت محمد على باشا وتغيرت سياسات من خلفوه، إذ افتقدوا المهارات القيادية ومقومات الزعامة التى اتصف بها جدهم، وهى مقومات لا تورَّث من الأباء للأبناء، فهذا هو الخديوي عباس الأول ابن محمد على، قام فور اعتلائه العرش بإغلاق المدارس والمعامل، وأنقص عدد جنود الجيش إلى تسعة آلاف جندي..

وضاع الالتزام السياسي باحتضان حركة النهضة، وهو شرط أساسي لاستمرار أي نهضة أو تقدم. وتضافرت على محمد على جموع الدول الأوروبية وتمكنت من تقليص جيشه واستلبت منه الأراضى التي فتحها. لقد كان الشعب المصري هُوهُو قبل محمد على باشا وبعده، والظروف كانت متماثلة. ولكن الطفرة حدثت إبان حكم محمد على، وانطفأت جذوتها فى عهود من حكموا البلاد بعده. فالأمر رهن بالزعيم والقائد، والتاريخ يحدثنا بأن الملوك يحكمون وينهبون، والشعوب تدفع الثمن. وإذا حقق الملوك بعض إنجازات فالمجد – كل المجد – لهم، فهم الملوك العباقرة المغاوير الملهمون. وإن هُزموا، فالشعب هو الذى تقاعس عن دفع الضرائب لتمويل الحرب، والجنود الجبناء هم الذين فروا من ميدان المعركة. وكما قال أحد خلفائنا الأمويين للناس زاجراً: أردتمونا كالخلفاء الراشدين ولم تكونوا لنا كالأنصار. فالناس هم الملومون فى كل حال وأي ظرف . وإذا حاقت بهم الهزيمة – أي بالزعماء غير المقتدرين، كان ذلك بسبب الأسلحة الفاسدة، ولم يقل لنا أحد كيف كان فسادها وعلى من تقع مسؤولية ذلك إن كان صحيحاً. بل لم يكشف لنا أحد فى وقتها، وقت حرب فلسطين 48، أن العرب جميعاً مجتمعين حشدوا 10% مما حشده اليهود من جند وعتاد فهزمونا شر هزيمة. المهم لا تكون الهزيمة الساحقة بسبب قصور الملك أو انشغاله بغير أمور الأمة. فأما المسؤولية فتقع على الناس، أو الظروف، أو أي عوامل خارجية أخرى ليس للسلطان سلطان عليها، أو أنها فى خاتمة المطاف، إذا أعجزه التماس المعاذير، إنه القدر ومن له أن يغير الأقدار!
وما ظنكم بالهوان الذى عاناه العرب والمسلمون إبان تاريخهم الطويل، أَلاَ ينهض ذلك دليلا على عدم صلاحية خلفاء وسلاطين المسلمين الذين حكمونا، إذ نقصت صلاحياتهم لممارسة العمل السياسي والقيادي، إذ كان من الممكن – لو كانوا أهلاً للقيادة – أن يتفادوا الكثير مما حاق بنا من هزائم بسبب الضعف الذى أصاب الأمة على أيديهم بسبب توارث المُلك ونبذ الشورى، وتفشى الاستبداد والفساد.

يذكر لنا التاريخ أن الأباطرة الرومان فى العهد الذى عرف باسم عهد الأباطرة الصالحين (96-180م) قد اهتموا كثيراً بالتعليم وتوسعوا فى إنشاء المدارس، وأجزلوا العطاء للمدرسين، وأصبحت الدولة، لأول مرة، تشرف على التعليم، وانتشرت المكتبات العامة، وزادت نسبة التعليم على نحو غير مسبوق. وهذا عين ما فعله محمد على باشا إذ أنشأ المدارس وتكفل بنفقات تعليم التلاميذ وإطعامهم وإلباسهم بل وإعطائهم رواتب شهرية إمعاناً فى اجتذابهم. ولما كان الآباء يمتنعون عن إرسال أبنائهم إلى هذه المدارس، كان يبعث بمن يقودهم إليها قسراً بالسلاسل والأغلال. ومثلما أغلق الخديوي عباس الأول المدارس فى مصر، أغلق الإمبراطور البيزنطي جستنيان سنة 529 م أكاديمية أفلاطون فى أثينا وكانت معقلاً للعلوم الدنيوية التى وصفوها بالعلوم الوثنية .

أين الديموقراطية فى بلاد المسلمين، لا تكاد ترى دولة إسلامية ديمقراطية، إلا قليلاً وترى الحاكم فى كثير من بلاد الإسلام مقدسا فهو الذى انحدر من سلالة ملكية استولى أولها على الحكم بالسيف فحق له وراثة الأمة كما توَّرث الأنعام، أو زعم زاعمهم أنه حصل فى الانتخابات (النزيهة) على نسبة 99.99% .
أين الخلل إذن، إنه الخلفاء والسلاطين والمماليك الذين تولوا قيادة الأمة فلم يحسنوا القيادة، وجلسوا على العرش فانصرفوا إلى نهب بيت مال الأمة، وكانوا أعجز من أن ينهضوا بواجبات الحكم، فهم ليسوا أفضل من كان يتعين عليهم الجلوس على العرش .
" إن حكم الطغاة لا يولد إلا فى البيئة الفاسدة، ولا يستمر إلا فى المجتمع الجاهل الذى يفقد وعيه وإحساسه بالحرية، وفى غياب الديموقراطية ينمو حكم السادة ليتحكموا فى العبيد، ويُستباح كل شئ " (4) .

وإذ لا يتيسر لنا الآن حجة دامغة تمنعنا من الاستيثاق من أن تاريخ الأمم، فى المقام الأول، يصنعه الملوك والحكام، فثمة سؤال يصعب التنصل من الإجابة عنه، وهو : أين كان زعماء البلاد الإسلامية عندما زُرعت إسرائيل فى قلب العالم الإسلامى واستفحل شأنها، وأين كانوا عندما أنشأت جيشها القوى ومفاعلاتها النووية، أين كانوا من مشكلات وقضايا التنمية والأمية والفقر والمرض والتعليم والثقافة والتصنيع ... قد يقول قائل: إننا كنا مستعمرين، نعم لكننا تحررنا منذ نصف القرن تقريباً، وهى مدة فاقت بكثير ما لزم محمد على للنهوض بمصر من ظلام التخلف والجهل إلى أن اصبح قوة يخشاها الغرب، وهى مدة أطول بكثير مما احتاجته ألمانيا بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى كي تصبح قوة هائلة فى الحرب العالمية الثانية، وهى أطول من المدة التى استغرقتها جهود الألمان لبناء ألمانيا بعد خرابها خراباً شاملاً بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية .

يقول الدكتور محمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل : " إن من الممكن إحداث ثورة علمية فى الهند، وأفريقيا، وجنوب شرق أسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وذلك فى غضون خمسين سنة. وليس لدينا عذر إذا لم ندرك هذه الحقيقة " (5).
نعم، لابد أن يكون هناك مسؤول عن تردى أحوال المسلمين وضعفهم، نعم تقع المسؤولية على عواتق من حكمونا طوال الأزمنة الماضية ولم يتخذوا التدابير الضرورية لاكتساب وسائل القوة، واصطناع أسباب العزة، أو أنهم – على الأقل – لم يتركوا مناصبهم وعروشهم لمن هم أقدر منهم على فعل ذلك. أي أنهم لم يَصْلُحوا فلم يُصْلِحوا، ولم يتركوا من يقدر على الإصلاح لتبوأ سدة الحكم. فالصهاينة أنشأوا دولتهم، وفى خمسين سنة أصبحوا أقوى من كل العرب والمسلمين. لماذا حدثت هذه المفارقة وكيف؟ بضعة ملايين من اليهود فى أقل من خمسين سنة تفوقوا على مليار ونصف المليار من المسلمين. قد يقول قائل إن الصهاينة يعتمدون على أمريكا وقبلها اعتمدوا على إنجلترا، وأن اللوبي الصهيوني من وراء اليهود يعمل فى قلب المؤسسات الأمريكية، وذلك فى نظري عذر أقبح من ذنب، فذلك ما فعله اليهود، ماذا فى المقابل كان يجب علينا أن نفعله، لقد شرعوا فى السعي لصنع السلاح النووي فى وقت مبكر فى الخمسينيات من القرن الفائت، فى زمن كنا لا نحسن فيه سوى ترديد الأغاني الحماسية والهتاف ملء الحناجر لحكامنا الذين خدعونا وأوهمونا، أو توهموا أنهم سيلقون إسرائيل، ومن هم وراء إسرائيل فى البحر، (أنظر مبلغ الثقة المضللة، وإلى أي حد بلغ السفه )، وسرعان ما دمر الصهاينة قواتنا الجوية على الأرض فى أقل من ثلاث ساعات، وطاردوا جنود قواتنا البرية فى الصحراء وهم حفاة عراة يموتون جوعاً وعطشاً على رمال سيناء.

من يصنع التاريخ ؟ القادة أم الشعوب ؟
كيف يمكن أن تنحصر الملكات والقدرات فى عرق من الأعراق دون غيره ؟ أو فى أسرة من الأسر دون سواها؟ لقد زعموا ضرورة أن يكون الخليفة قرشياً، وقد كان من بين طغاة الخلفاء قرشيون، وكلهم ارتكبوا أخطاءً فادحة ما كان يرتكبها من يخشى الله ورسوله. وبما أن الصلاحيات والقدرات لا تنحصر فى عرق أو أسرة دون سواها، ولا فى جنس دون غيره، لذا فإن توارث السلطة باطل محض، ويورد الأمم موارد البوار . وما استقام الحال فى عهد الأباطرة الرومان الصالحين (96-180م) إلا بسبب العزوف عن توريث الحكم لأبناء الإمبراطور، وإن كان على الإمبراطور أن يختار من يخلفه فى الحكم من خارج أسرته . وخلفاء المسلمين وحكامهم ورَّثوا العرش لأبنائهم بدعوى الحق الإلهي أولاً، ثم بشرعية قريش، وذلك نصب باسم الدين، ثم شرعية الجيش، ولم يذكر أحد شرعية الحق والعدل، وكل من أراد أن يحكم القطيع ادعى قدسية نسبه : أمويون وعباسيون، والشيعة بطوائفها : الفاطميون والإسماعيلية والقرامطة والأدارسة. وكل من زعم شرف نسبه اتجه غرباً وأسس له دولة حيث لم يبق لهم فى الشرق حظ من الكعكة، فاتجه عبيد الله " الشيعي " إلى تونس، وإدريس " الشيعي " إلى مراكش، وقبلهما "الأموي" عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس .
كان الخليفة العباسي المستعصم متردداً ضعيف الشخصية، شديد البخل محباً للمال ويضن به على جنده. وعندما أقبل التتار على بغداد فى 1258م، لم يحشد الخليفة " المعظَّم " جيوشه، بل سرَّحها، نعم سرح الخليفة جيشه والتتار مقبلون نحوه بقضِّهم وقضيضهم، وذلك استجابة " لنصيحة " وزيره مؤيد الدين بن العلقمى الذي تعاون مع التتار، ولاحظ الاسم (مؤيد الدين!!)، والكارثة كل الكارثة أن يعمى السلطان عن قدراته الفعلية ويتوهم أنه قادر على ما لايقدر عليه فعلاً إذا جد الجد. فهذا هو الخليفة المستعصم يرد على هولاكو قائلاً ومتوعداً: إن ملايين من الخيالة والرجالة على استعداد للحرب، رهن إشارتي حتى إذا حلت ساعة الانتقام جففوا مياه البحر. وعاد الخليفة متخاذلا بعد أن تكشفت الأمور، ليطلب من هولاكو الرجوع عن بغداد مقابل أن يدفع له جزية سنوية. وهزم هولاكو المستعصم، ووضعه في كيس من القماش ورماه على الأرض، وداسته حوافر الخيل حتى مات بعد أن وضع أمامه بعضاً من الجواهر، التي كان يخفيها، وطلب منه أن يأكلها، ولما أجاب الخليفة بأن الكنوز لا تزيل جوعاً رد عليه هولاكو بقوله : "إذا كانت الكنوز لا تسد الرمق، وإذا كانت لا تحفظ الحياة، فلماذا لم تعطها لجنودك ليحموك، أو إلى جنودي ليسالموك"(6) . ويعيد التاريخ نفسه، فيقول أحدهم، وقد ظن أنه القائد الملهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول إنه سيدمر إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل – يقصد أمريكا – فدحروه في سويعات قليلة . ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وعندما احتاج الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس إلى المال لإعداد جيش لرد الأعداء، قام ببيع نفائس القصر الإمبراطوري في مزاد علني، وبيع الودائع الثمينة التي تكدست منذ أيام الأباطرة السابقين في خزانة القصر حتى ملابس الإمبراطورة المطرزة بالذهب، باعها في المزاد، في حين ضنَّ الخليفة المسلم بأمواله المكدسة، ضن بها على إعداد جيش كبير لصد التتار . وبينما سرح الخليفةُ جيشه عند قدوم التتار، لم يتردد الإمبراطور الروماني ماركوس في تجنيد العبيد والمبارزين والمرتزقة في الجيش الروماني لتعويض النقص في عدد الجند .
والالتزام السياسي باحتضان ورعاية النهضة العلمية، يلزمه بالضرورة الوعي السياسي، أي أن الالتزام السياسي وليد الوعي بأهمية وضرورة البعث والنهضة العلمية. وهو وعى لا يتوافر لجاهل أو شبه متعلم، وإنما يتعين أن يكون المسؤول المنوط به دفع النهضة العلمية ذا خبرة فى ممارسة العمل السياسي من خلال أنشطة حزبية يكون قد تدرج فيها إلى أن يكتسب المهارات الضرورية لمزاولة العمل السياسي، وأن يكون قد ترسخت لديه مبادئ الحرية والمساواة وسيادة القانون .

يقول الدكتور محمد عبد السلام (باكستاني)( ) : "كان حكامنا (ونظمهم العسكرية) في باكستان بكل بساطة غير مهتمين بإقامة مدارس للتعليم والعلوم، وكانوا أكثر اهتماماً ببناء نًصب لأنفسهم،ولا يزال هذا التقليد مستمراً،للأسف" (7). وينطبق هذا على غير باكستان، فأول جامعة مصرية أنشئت بالتبرعات الأهلية سنة 1908. وقال علماء الحملة الفرنسية عن المدارس في مصر: "ومن الأمور اللافتة للنظر أن المدارس العمومية لا تدين بوجودها إلا إلى أعمال البر. وهذه المدارس كبيرة العدد في أية مدينة تحظى بدرجة ما من الأهمية . ويقوم الرجل الثرى عادة بتخصيص جزء من الميراث الذي سيتركه لأولاده لإنشاء مدرسة عمومية والصرف عليها. انظر إذن كيف يقوم كرم وتضحية الخاصة بسد ثغرات الإهمال الإجرامي من جانب الحكومة ؟ ولولا حسنات هؤلاء الأغنياء لكانت مصر وتركيا معاً محرومتين تماماً من معرفة المبادئ الأولية للتعليم. والمدارس العمومية كثيرة جداً في القاهرة وفى المدن الرئيسية، ولكن من النادر أن نرى مدرسة واحدة في الريف" (Cool.
ويحكى لنا التاريخ أن الإسكندر الأكبر كان ينفق مبالغ طائلة على الأنشطة والبحوث التي كان يقوم بها أرسطو. ولكن بطلميوس الأول هو أول من أوقف الأموال على خدمة العلم والعلماء. لذا ظهرت في هذا الوقت مجموعة رائعة من العلماء الرواد الذين أنتجوا للبشرية إنتاجاً رائعاً، واستمرت هذه الجذوة متأججة طوال عهدي بطلميوس الأول والثاني، ولكن لم تلبث هذه النهضة أن خبت شيئاً فشيئاً مع قلة اهتمام ملوك البطالمة في ما بعد. وبعد انقضاء حوالي القرن من بدء هذه النهضة لا نجد إلا القليل من النشاط العلمي الذي يمكن وصفه بالجودة .
وكان ملوك النورمانديين في أوروبا رعاة عظاماً للعلوم – مثلما كان خلفاء العباسيين في العصر العباسي الأول – ولا سيما روجر الثاني(حكم من 1130-1154 م)، الذي أنشأ ديواناً للترجمة عمل به علماء من المسلمين والمسيحيين واليهود، وترجموا العلوم العربية إلى اللاتينية، على غرار ما فعله الخليفة المأمون من إنشاء ديوان للترجمة عمل به مترجمون من المسلمين والنصارى. كذلك كان فردريك الثاني- من النورمانديين أيضاً – من رعاة العلم وأسس جامعة في نابولي سنة 1214 م وهى جامعة بلنسية .
وعندما استعاد الإمبراطور الياباني السلطة في سنة 1869، وهو أحد أباطرة السلالة الميجية، أقسم أن يطلب العلم والمعرفة من أي مصدر وكل مصدر متاح، وأوفد البعثات التعليمية إلى خارج اليابان، وأتى بالمهندسين من أوروبا، وأقام الجامعات والمعاهد البحثية. وبعد سنة واحدة أسس وزارة الهندسة التي وضعت أسس الثورة الصناعية اليابانية . وفى سنة 1873 أنشئت كلية الهندسة في طوكيو، وتوسعوا في إيفاد البعثات إلى خارج اليابان، وإنشاء الجامعات والمؤسسات البحثية والجمعيات العلمية. واهتموا بالتعليم التقني، (فكانوا يدرسون بالدرجة الأولى المواد العلمية مثل الهندسة والزراعة والطب والجيولوجيا مع المواد الأساسية المعززة مثل الرياضيات والفيزياء" (9) .

وكانت الثورة الاشتراكية الروسية فى سنة 1917، والثورة التركية فى سنة 1922، تقريباً متعاصرتين. غير أن مسار كل منهما تباين واختلف وفقاً لرؤية وقدرات زعيم كل من الثورتين، فظن كمال أتاتورك أن سر التقدم فى تقليد الغرب، وتحول إلى العلمانية، وحظر التعليم الديني، واستبدل الحروف اللاتينية بالحروف العربية إيغالا منه فى طمس الهوية الإسلامية . واقتدى بأوروبا ظناً منه أن ذلك هو السبيل، حتى أنه شُغل بإلغاء الطربوش وفرض ارتداء القبعة، بل إنه أعدم من استهزأ بالقبعة!. ذلك كان مبلغ همته وعلمه. أما فلاديمير لينين القائد الشيوعي، فصرف همته إلى أمهات الأمور، فأنشأ لجنة للترجمة من اللغات العالمية لترجمة كتب العلوم والتكنولوجيا، وضم فريق المترجمين بمعاهد التكنولوجيا 2500 مترجم، بالإضافة إلى اثنين وعشرين ألف خبير مترجم يعملون بعض الوقت. وتنامت المؤسسات العلمية حتى زاد عددها على خمسة آلاف مؤسسة يعمل بها مليون عالم، فوصل الروس إلى القمر سنة 1957، أي بعد أربعين سنة فقط من قيام ثورتهم،في حين أن تركيا لم تقطع شوطاً ذا بال وأصبحت كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، فلم تحتفظ بالهوية الإسلامية، ولم تبلغ ما بلغه الغرب العلماني .
ولما أبرمت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية عدة اتفاقات مع كثير من الدول تسمح فيها للسفن العسكرية الأمريكية بالمرور من المحيط الأطلسي لتصل إلى أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، تمكنت أمريكا بذلك من مراقبة الاتحاد السوفيتي الذي كان يفصل بينه وبين أمريكا سدس الكرة الأرضية تقريباً، وكان بوسع أمريكا الوصول إلى روسيا فى عشر دقائق. ولكن العلماء الروس حلوا هذه المعضلة باختراع الصواريخ التي يصل مداها إلى أمريكا حاملة القنابل الهيدروجينية . إنه العلم .. العلم .
كانت مطبعة الألماني جوتنبرج (1398-1468) مطبعة خشبية، وبنى الإنجليزي وليم نيكولون أول مطبعة حديدية تعمل آليا في سنة (1790)، "وكانت جريدة التايمز أول جريدة طبعت بمطبعة تعمل بمحرك بخاري في سنة 1814، في وقت كانت تعيش فيه شخصيات إسلامية كبيرة، إلاّ أن العالم الإسلامي كله لم ينتج رجلا واحدا يشعر بأهمية الأمر في حينه، ويدرك أن هناك طاقة جديدة ظهرت فى العالم اسمها المطبعة وقريبا ستسيطر  على  عقول الدنيا كلها" (10).
وظهور الغرب كسيد جديد للعالم كان بسبب الآلة وقوة البخار والثورة الميكانيكية التي استخدم فيها الآلة بدلاً من قوة عضلات الإنسان والحيوان. ونظراً لأن حكام المسلمين طوال عصورهم لم يكونوا الأقدر أو الأكفأ، بل كانوا الأقوى والأشد بطشاً، فقد افتقدوا الملكات والقدرات التي يتمكنون بها من قراءة الأحداث واستشراف المستقبل، والاستفادة من منجزات العلم قبل اتساع الهوة بينهم وبين الآخرين . لذا لم يستفد المسلمون من ثورة الآلة وقوة البخار، فعندما اخترع الإنجليزي توماس سيورى المحرك البخاري في سنة 1698 (كان ذلك معاصراً لحكم الإمبراطور عالمكير للهند، والسلطان أحمد الثالث العثماني (1673 – 1736)، إلا أن الإمبراطوريتين المغولية والعثمانية كانتا بمعزل عن العالم فلم تعلما بخبر هذه الثورة التي حدثت في موازين الطاقة، تلك الطاقة التي انتشرت وقضت في النهاية على هاتين الإمبراطوريتين" (11) .
وإذ ثبت لنا الآن، بما لا يدع مجالا للشك أن نهضة الأمم رهن بالرجال العظام الذين يقودونها، وأن ما من أمة سادت وقويت إلا بفضل حكامها الراشدين، إذ ثبت لنا ذلك، أليس من المعقول والمنطقي إذن القول بأن ضعف الأمم وهوانها ومذلتها رهن برجال حكموها وما هم بأهل للجلوس على عروشها ؟؟ .
كان ذلك ما علمناه من الأداء لسلاطيننا على الصعيدين العلمي والعسكري، ترى ما أداؤهم على الصعيد الاقتصادي ؟ اسمع، تبلغ قيمة الاستثمارات العربية في الخارج حسب تقدير مجلس الوحدة الاقتصادية العربية 2400 مليار دولار . ويبرز تساؤل هام، لماذا هاجرت هذه الأموال ؟ ومن أصحابها ؟ وهل يمكن استعادتها ؟ ومعظمها استثمارات خاصة أي يملكها أفراد من جنسيات عربية مختلفة، وبعضها استثمارات عامة تملكها بعض الدول العربية وبخاصة الخليجية. وإذ يخفق العرب في استثمار أموالهم الطائلة في بلادهم، فلا تعجب إن لم يستثمر الأجنبي أمواله في بلادنا. وتبلغ نسبة الاستثمارات الأجنبية في البلدان العربية من جملة الاستثمارات العالمية ما قيمته 1% فقط، فالعالم العربي أكثر مناطق العالم طردا للاستثمار وأقلها جذباً له. وعلى الرغم من ضخامة كم الأموال المستثمرة خارج العالم العربي، يأسف المرء إذ يعلم أن الفجوة الغذائية العربية تبلغ 20 مليار دولار (تقديرات سنة 2001)، تزيد سنوياً بنسبة 3%. ويبلغ عدد العاطلين في العالم العربي 18 مليون عاطل، ويعيش نحو 62 مليون عربي (22% من جملة السكان) على دولار واحد يومياً، ويعيش 145 مليون عربي (52% من جملة السكان) على دخل يومي من 2 إلى 5 دولارات . ويعيش ملايين العرب تحت خط الفقر، أي يتعذر عليهم الحصول على طعامهم في بلاد تستثمر في الخارج 2400 مليار دولار، اللهم فاشهد، واسترداد بعض هذه الأموال كفيل بحل جميع المشاكل الاقتصادية لتلك البلاد. أما عن دلائل الفشل الاقتصادي الذريع لسياسات العالم العربي فتتمثل في تعاظم حجم الديون الخارجية والداخلية، إذ بلغت حوالي 560 مليار دولار في نهاية سنة 2000 .

وتتبين فداحة هذه الديون إذا قيمناها في ضوء الناتج المحلى الإجمالي للبلاد المقترضة، إذ بلغت النسبة المئوية للدين العام الخارجي إلى الناتج المحلى الإجمالي لسنة 2000 في بعض هذه البلدان ما يزيد على 220% ومن العجيب أنه عندما زادت أسعار النفط في السبعينيات، وتحقق للدول العربية المصدرة للبترول من وراء ذلك عوائد نفطية هائلة، زاد في الوقت نفسه حجم الديون الخارجية بمعدلات لم يسبق لها مثيل، واستوى في ذلك الدول العربية المصدرة للنفط والدول غير النفطية، الأمر الذي شكل عبئاً ضخماً على خطط التنمية في هذه الدول، وأثر سلباً على معدلات التضخم، والقدرات الاستيرادية، والادخار المحلى في هذه البلدان التي يضطر بعضها إلى خفض قيمة العملة الوطنية تحت ضغوط الأطراف الدائنة، فتتدهور القيم الحقيقية للمدخرات، ويضطر من لديه أموال إلى إيداعها في خارج البلاد، وذلك من أهم أسباب ظاهرة هروب رءوس الأموال إلى الخارج خوفا من تآكلها، ويزيد من جراء ذلك معدلات البطالة وتسريح العمالة بما يصحبه ذلك من مشكلات اجتماعية عويصة. وأدى تخلف الاقتصاد إلى مزيد من التبعية للدول المتقدمة الدائنة، فتحكمت في مسارات التنمية وتمثلت هذه التبعية في تبعية اقتصادية وتكنولوجية وسياسية.

قدسية الحاكم :
تقديس الحاكم هو استرهاب يفرضه المستبد والطاغية، ويتقبله المقهور المبطوش به. وهو خضوع مارسه الشرقي والمصري من أيام الفراعنة، وأُعجب به أباطرة الرومان فأعلن بعضُهم نفسه إلها. ولمَّا تعذَّر بعد ذلك إدعاء الألوهية، قال الخلفاء والملوك الظلمة بالحق الإلهي، إذ هم يمثلون الله وهم ظله في الأرض. ولما ثارت الشعوب على مدعى الحق الإلهي لم يقل به أحد بعد ذلك وإن احتفظ بعض الملوك بمظاهر هذا التقديس في تقبيل الأيدي والأقدام (كان وزراء الشاه يقبلون يده، ويسجدون له أحياناً). وهناك طور آخر من التقديس، وهو ادعاء الانتساب إلى الأنبياء، ففي بلاد الإسلام هناك من يقول بانتسابه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهم الأشراف. وهناك من يزعم انتسابه إلى سيدنا أبى بكر الصديق، وهم البكرية. والطريف أن هناك من يقول بنسبه إلى النبي سليمان عليه السلام، فالطغاة والمستبدون يجترئون شيئاً فشيئاً على عقول شعوبهم المقهورة، ويزيدون جرعة القهر للناس، فإن تقبلوها وهم صاغرون، زادوها، وهكذا حتى يأتي الوقت الذي لا يستحي فيه المستبد من زعم أو فعل أي شئ، فلم يكتف هيلاسلاسى بأن يقبل الناس قدميه ويركعوا له، بل زعم أنه الوريث الشرعي للنبي سليمان والملكة سبأ، الوريث رقم 245، لا أدرى كيف حسبها، وقد جاء ذلك في الدستور الأثيوبي "لنبي الله" هيلاسيلاسى الذي أطلق على نفسه لقباً كبيراً هو : صاحب الجلالة الإمبراطورية، ملك الملوك، الأسد الظافر، من سبط يهوذا، الإمبراطور العظيم، المنحدر مباشرة من سلالة ملكة سبأ وبيت داوود. فإذا لم تستح فافعل ما شئت. وإذا خضعت الشعوب وامتثلت للقهر فلا يحق لها فوق ما يحق للبهائم والأنعام .

والإسلام الحنيف يربى الناس على العزة والكرامة. والمسلم لا يقدس أحدا سوى خالقه، ولا يركع لسواه. وللمرء أن يعجب لما أصاب المسلم فيقبل أيدي حكامه بلا استنكاف على نحو مهين وغير إنساني. قال سيدنا عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: "قبلة اليد من المسلم ذل، ومن الذمي خدعة، ولا حاجة لنا أن نذل أحداً أو يخدعنا أحد). وكان إمام اليمن يطلب من رعاياه تقبيل قدميه وذلك قبل نحو أربعة عقود خلت. وهى أمور لم يمارسها المسلمون مع نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. هل سمع أحدكم أن أحدا قبَّل قدمي النبي صلى الله عليه وسلم، أو سجد له ؟ . ولما عدم خلفاؤنا الدين فى نفوسهم، أضفوا صفات الجلالة على أسمائهم لعلها تخدع الناس بإيمانهم المزيف، فتراهم يسمون أنفسهم: المنتصر بالله، والمستعين بالله، والمعتز بالله، والمهتدى بالله، والمعتمد على الله، والمكتفى بالله، والمقتدر بالله، والراضى بالله ... ، وليس لهم حظ من هذه الأسماء أو صفاتها. وتصل درجة تقديس الطغاة إلى حد التأليه، فعندما (اجتمع مجلس الشيوخ بعد وفاة الإمبراطور أغسطس لتأبينه، بلغ بهم الحماس إلى إضفاء الألوهية عليه رسمياً، واعتباره من عداد الآلهة الرومانية الخالدة ،وتم إنشاء هيئة دينية للإشراف على عبادته ونشرها فى جميع أنحاء الإمبراطورية، كما أنعم مجلس الشيوخ على زوجة الإمبراطور، واسمها ليفيا بلقب أغسطا أي المقدسة. وأنعم مجلس الشيوخ على ابنه بالتبنى بجميع السلطات والألقاب مدى الحياة"(12).

ولما كانت قدسية الحاكم ضرباً من ضروب الاسترهاب، فلم يكن يسترهب الرعية سوى طاغوت يعلم أنه ظالم مستبد. فالأنبياء نفوا قدسيتهم وأثبتوا بشريتهم، وخلفاؤنا الراشدون العظام لم يدع أحدهم قداسة أو علوا فوق مستوى البشر. كان سيدنا عمر بن الخطاب ينام آمناً تحت شجرة بلا حراسة ويرتدى ثوباً به ما يزيد على العشرين رقعة، فقد كانوا بشرا متواضعين. "وكان الإمبراطور الروماني دوميتيانوس  (81-96م)  يحرص على أن  يُنادى  بلقب "المولى والرب" وكان رجاله يقولون : (إن مولانا وربنا يأمر بأن ينفذ هذا الشيء ...، وجعل القسم بعبقرية الإمبراطور شرطاً في كل عقد أو وثيقة" (13). ولكن هذا المولى والرب لعنه الناس ومجلس الشيوخ بعد موته وأمروا بمحو اسمه وتدمير تماثيله. وكانت له سلوكيات شائنة مع ابنة أخيه ...، ولشدة خوفه نادراً ما كان يخرج من حجرته في قصره التي كسا جدرانها بغطاء لامع ليرى من يقف خلفه لكي لا يُطعن من الخلف، ويحتفظ دائماً بخنجره تحت وسادته ليلاً، ومع ذلك حاكت له زوجته مؤامرة لقتله تماثل تماماً المؤامرة التي دبرتها شجرة الدر لقتل زوجها السلطان المملوكي عز الدين أيبك، ومات طعناً بخناجر المتآمرين. وتُركت جثته (جثة الرب والمولى) ملقاة ودُفنت في مقابر المعدمين، ذلك كانت نهاية الرب الذي كان يقسم الناس بعبقريته .

ومثلما كان الخلفاء العباسيون يضيفون إلى أسمائهم صفات وأسماء الجلالة كان الإمبراطور الروماني أغسطس يضيف اسمه كذلك إلى أسماء آلهة روما ليكتسب قداستها، فيطلق عليها اسم "فورتونا" أغسطس، "وباكس" أوغسطا، وغير ذلك، كي يقنع الرومان أن كلمة أغسطس كلمة مباركة ومقدسة . كما خلعت زوجات وأمهات الأباطرة على أنفسهن الألقاب المهيبة الفخمة، فكانت أم الإمبراطور الكسندر سيفيروس تطلق على نفسها ألقاب:أغسطا والدة الأغسطس، وأم ثكنات الجيش ومجلس الشيوخ والوطن !!! .

القوة غير العدل
كان الأمويون أقوياء، واتسعت في زمنهم رقعة الدولة، ولكن تقلصت كرامة الإنسان، وانكمش الدين في الضمائر وضاعت الأخلاق. وحقا ازدهر العلم في عهد العباسيين، ولكنهم نهبوا الأمة وتخاذلوا أمام الزحف المغولي الذي تصدى له المماليك. كذلك كان العثمانيون سلاطين أقوياء، إذ أنشأوا دولة قوية تصدت لأعداء الإسلام، وعطلت الغزو الاستعماري للأمة الإسلامية حوالي أربعة قرون. هذا كله صحيح. ولكن القوة غير العدل، والقوة غير الحق، ولو كان الأمر مسألة قوة وفتح بلاد واستيلاء على أراض، لكانت فتوحات التتار وإمبراطوريتهم العسكرية هي المثل الذي يُحتذى، ولكنها إمبراطورية قامت على الظلم والقهر والبطش والباطل، حيث فتح جنكيز خان بولندا والمجر والصين ودولة خوارزم الإسلامية وروسيا التي أباد جيشاً لها تعداده 82 ألف جندي في خمسة أيام، وبلغ ضحايا جنكيز خان حوالي 50 مليون ضحية بين قتيل وجريح وأسير، وذلك في غضون ربع القرن فقط .

وإسرائيل دولة قوية، ولكنها قوة غاشمة ظالمة . والبلطجى قوى مفتول العضلات يمكنه أن يصرع رجلاً بقبضته، ولكنه ظالم باغ. والإسلام يحفل بالقوة ولكن مع العدل، ويرى القوة المجردة من العدل ظلماً وطغيانا لا يرضاهما الله. فقوة القوى لا تبرر ظلمه، والإسلام يريد القوة والعدل معاً، إنه يتفرد بذلك . ألا ترى أن القوة لا تُحمد إلا إذا صُرفت فى حق وعدل، شأنها شأن الصدقة التى لا تُقبل إلا إذا كانت من مال حلال. فالسلاطين الذين يحاربون الأعداء ويبنون الأساطيل ويجيشون الجيوش، ولكن ينهبون بيت المال، ويظلمون الناس، ويستولون على العروش بالسيف والشرعيات المزيفة، سواء أكانت شرعية قريش أم شرعية الجيش، إنهم لا يستوون مع المثال الذى شهده التاريخ مرة واحدة أثناء حكم الشيخين الجليلين رضى الله عنهما وأرضاهما (أبى بكر وعمر)، والفرق بيِّن بيِّن، كالفرق بين المغانم والمغارم .
والذي يباعد بين الحق والقوة هو الدينار، والذي يفرق بين العدل والسلطة هو الدينار، فالدينار هو القبلة التي تُرتجى، حولها يتحلق المتحلقون، يطوفون حولها ولا يملُّون.

المصادر :
1- هـ.ج.ويلز – موجز تاريخ العالم .
2- خير الدين التونسي – أقوم المسالك (المقدمة) –
        الطبعة الأولى
3- المرجع السابق
4- د.محمود متولي – طغاة التاريخ
5- د. محمد عبد السلام – التنمية والتقدم العلمي
6- إسبورن – الإسلام فى زمن خلفاء بغداد –
        د. مصطفى طه بدر – محنة الإسلام الكبرى .
7- د. محمد عبد السلام – التنمية والتقدم العلمي
8- علماء الحملة الفرنسية – وصف مصر الجزء الأول
9- د. محمد عبد السلام – التنمية والتقدم العلمي
10- وحيد الدين خان – واقعنا ومستقبلنا فى ضوء
       الإسلام
11- المرجع السابق
12- د. سيد الناصري – تاريخ الإمبراطورية الرومانية
13- المرجع السابق
طارق فتحي
طارق فتحي
المدير العام

عدد المساهمات : 2456
تاريخ التسجيل : 19/12/2010

https://alba7th.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى